الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المكاتبة

قال الله تعالى : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا روي عن عطاء قال : ( ما أراه إلا واجبا ) ، وهو قول عمرو بن دينار وروي عن عمر : ( أنه أمر أنسا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة وضربه وقال : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، وحلف عليه ليكاتبنه ) . وقال الضحاك : ( إن كان للمملوك مال فعزيمة على مولاه أن يكاتبه ) .

وروى الحجاج عن عطاء قال : ( إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم ) ، وكذلك قول الشعبي .

قال أبو بكر : هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ، وما روي عن عمر في قصة سيرين دل على ذلك أيضا ؛ لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه .

فإن قيل : لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه . قيل : لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية ، فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظ في الدين وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة . ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظن المولى أن فيهم خيرا ، فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه .

وقوله : إن علمتم فيهم خيرا روى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إن علمتم لهم حرفة ولا تدعوهم كلا على الناس . وذكر ابن جريج عن عطاء : إن علمتم فيهم خيرا قال : ( ما نراه إلا المال ) ثم تلا قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا قال : ( الخير المال فيما نرى ) ، قال : وبلغني عن ابن عباس : يعني بالخير المال .

وروى ابن سيرين عن عبيدة إن علمتم فيهم خيرا قال : ( إذا صلى ) . وعن إبراهيم ( وفاء وصدقا ) . وقال مجاهد ( مالا ) . وقال الحسن : ( صلاحا في الدين ) .

قال أبو بكر : الأظهر أنه أراد الصلاح ، فينتظم ذلك الوفاء والصدق وأداء الأمانة ؛ لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا : فلان فيه خير ، إنما يريدون به الصلاح في [ ص: 181 ] الدين ، ولو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيرا ؛ لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال ؛ وأيضا فإن العبد لا مال له ، فلا يجوز أن يتأول عليه . وما روي عن عبيدة ( إذا صلى ) فلا معنى له ؛ لأنه جائز مكاتبة اليهودي والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة .

وقوله تعالى : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم اختلف أهل العلم في المكاتب هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئا من كتابته ؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري : ( إن وضع عنه شيئا فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يجبر عليه ) . وقال الشافعي : ( هو على الوجوب ) . وروي عن ابن سيرين في قوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال : ( كان يعجبهم أن يدعوا له طائفة من مكاتبته ) .

قال أبو بكر : ظاهر قوله : ( كان يعجبهم ) أنه أراد به الصحابة ، وكذلك قول إبراهيم : ( كانوا يكرهون ) ، وكانوا يقولون : الظاهر من قول التابعي إذا قال ذلك أنه أراد به الصحابة ؛ فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند الصحابة على الندب لا على الإيجاب ؛ لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب : ( كان يعجبهم ) .

وروى يونس عن الحسن وإبراهيم : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال : ( حث عليه مولاه وغيره ) .

وروى مسلم بن أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال : ( كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئا ) .

قال أبو بكر : ويحتمل أن يريد بقوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ما ذكره في آية الصدقات من قوله : وفي الرقاب وقد روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني عملا يدخلني الجنة قال : أعتق النسمة وفك الرقبة قال : أليسا واحدا ؟ قال : عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، وهذا يدل على أن قوله : وفي الرقاب قد اقتضى إعطاء المكاتب ، فاحتمل أن يكون قوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم دفع الصدقات الواجبات ، وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتب وإن كان مولاه غنيا .

ويدل عليه أنه أمر بإعطائه من مال الله ، وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب ، وهذا يدل على أنه أراد مالا هو ملك لمن أمر بإيتائه وأن سبيله الصدقة وذلك الصدقات الواجبة في الأموال ، ويدل عليه قوله : من مال الله الذي آتاكم وهو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح ؛ لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح . وعلى قول من يوجب حط بعض الكتابة ينبغي أن يسقط بعد عقد الكتابة ، وذلك خلاف موجب الآية من وجوه :

أحدها : أنه إذا سقط لم يحصل مالا لله قد آتاه المولى .

[ ص: 182 ] والثاني : أن ما آتاه فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه ، وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه .

وأيضا لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد هو الموجب له وهو المسقط ، وذلك مستحيل ؛ لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط .

فإن قيل : ليس يمتنع ذلك في الأصول ؛ لأن الرجل إذا زوج أمته من عبده يجب عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه ليس الموجب له هو المسقط له ؛ إذ كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط ، وكذلك من اشترى أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشرى والموجب للعتاق حصول الملك مع النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط . وقد حكي عن الشافعي أن الكتابة ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتاب واجب أقل ما يقع عليه اسم شيء ، ولو مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء .

قال أبو بكر : فلو كان الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير قصاصا ، ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة ؛ لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء وذلك غير جائز .

وجملة ذلك أن الإيتاء لو كان فرضا لسقط ؛ ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر معلوما أو مجهولا ، فإن كان معلوما فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم ؛ وذلك فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم ، ومع ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت . وأيضا فإنه يعتق بأقل مما شرط ، وهذا فاسد ؛ لأن أداء جميعها مشروط ، فلا يعتق بأداء بعضها . وأيضا فإن الشافعي قال : ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ) فالواجب إذا أن لا يسقط شيء ، ولو كان الإيتاء مستحقا لسقط ، وإن كان الإيتاء مجهولا فالواجب أن يسقط ذلك القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول .

فإن قيل : روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك له ربع مكاتبته وقال : إن عليا كان يأمرنا بذلك ، ويقول : هو قول الله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم وروي عن مجاهد أنه قال : ( تعطيه ربعا من جميع مكاتبته تعجله من مالك ) . قيل له : هذا يدل على أنهم لم يروا ذلك [ ص: 183 ] واجبا وأنه على وجه الندب ؛ لأنه لو كان واجبا عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر ؛ إذ كان المكاتب مستحقا له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئا .

فإن قيل : قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلا ويستحق هو على المولى أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصا بل يستحق على المولى تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أجله ، كمن له على رجل دين مؤجل فيصير للمدين على الطالب دين حال فلا يصير قصاصا له . قيل له : إن الله تعالى لم يفرق بين الكتابة الحالة والمؤجلة ، وكذلك من روي عنه من السلف الحط لم يفرقوا بين الحالة والمؤجلة ، ولم يفرق أيضا بين أن يحل مال الكتابة المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحط والإيتاء ؛ فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب ؛ إذ لم يجعله قصاصا إذا كانت حالة وكانت مؤجلة فحلت ، وأوجب الإيتاء في الحالين ، والإيتاء هو الإعطاء ، وما يصير قصاصا لا يطلق فيه الإعطاء .

ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما روى يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءتني بريرة فقالت : يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية ، فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت .

فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا ؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يمنعك منها ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق ، وذكر الحديث .

وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه ؛ فلما لم تكن قضت من كتابتها شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليها ولم يقل : إنها يستحق أن يحط عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئا من ماله ، ثبت أن الحط من الكتابة على الندب لا على الإيجاب ؛ لأنه لو كان واجبا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولقال لها : ولم تدفعي إليهم ما لا يجب لهم عليها .

ويدل عليه أيضا ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة : أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على كتابتي ، فقال : فهل لك في خير من ذلك ؟ فقالت : وما هو يا رسول الله ؟ فقال : أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت : نعم ؛ قال : قد فعلت . ففي هذا الحديث أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها ، ولو كان الحط واجبا لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأداء [ ص: 184 ] عنها باقي كتابتها .

وقد روي عن عمر وعثمان والزبير ومن قدمنا قولهم من السلف أنهم لم يكونوا يرون الحط واجبا ، ولا يروى عن نظرائهم خلافه ؛ وما روي عن علي فيه فقد بينا أنه يدل على أنه رآه ندبا لا إيجابا .

ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني عبد الصمد قال : حدثنا همام قال : حدثنا عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد ، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد ، فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره ، وفي ذلك دلالة على أنه غير مستحق ؛ والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية