الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 333 ] الباب الثاني في صفة الآخذ وفي الكتاب : الشفعة على قدر الأنصباء دون العدد ، وقاله ( ش ) وابن حنبل ، وقال ( ح ) : على عدد الرءوس . لنا : أنها سبب الملك فتتبعه ، ككسب العبد وثمر الثمرة وأرش الجناية وأجرة الدار . احتج بأنها للضرر المستمر فتستحق بالملك والضرر مستو ، ولأن الشفعة تستحق بالقليل كما تستحق بالكثير إذا انفرد إجماعا ، فكذلك إذا اجتمعا ولأن الدية على عدد رءوس الجانين لا بقدر الجنايات ، والغنيمة بقدر الرءوس لا بقدر القتال ، فكذلك هاهنا ، ولأن قوله - عليه السلام - : ( الجار أحق بسقبه ) يقتضي التسوية بين المتجاورين ، وقوله - عليه السلام - : ( الشفعة للشريك الذي لم يقاسم ) يقتضي التسوية لاستوائهم في هذا الوصف ، كما لو قلنا : الدار لإخوتك ، استووا في الاستحقاق .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الشريك إذا باع ملكه سقطت شفعته ، فدل على أن نصيبه هو الموجب لشفعته ، فتقسم على قدر الأنصباء ، ولأن الضرر يختلف باختلاف الأنصباء في المطالبة بالقسمة فيفترق الملك وينقص ، وغرم أجرة القاسم فالأكثر يتضرر أكثر .

                                                                                                                [ ص: 334 ] والجواب عن الثاني : أنه يبطل بالابن وابن الابن يستويان إذا انفردوا في أخذ جميع المال ، وإذا اجتمعا سقط ابن واختلف الحكم ، وكذلك الابن والأب .

                                                                                                                والجواب عن الثالث : أن السبب ثمة زهوق الروح لا ملكهم لأموالهم ، ونسبة هذا السبب إليهم نسبة مستوية ، فيستوون ، والغنيمة لا تستحق إلا بالقتال ، لأن من لم يقاتل يساوي المقاتل ، بخلاف الشفعة فتستحق بالملك كما تقدم .

                                                                                                                والجواب عن الرابع : أن الحديثين وردا في معرض بيان من له الشفعة لا بيان أحوال الشفعة ، والقاعدة : أن النصوص إذا وردت لمعنى لا يستدل بها في غيره ، لأن المتكلم لم يقصده ، كقوله - عليه السلام - : ( فيما سقت السماء العشر ) لا يستدل به على أن في الخضر الزكاة ، لأن المقصود بيان الجزء الواجب لا ما تجب فيه الزكاة ، وهي قاعدة جليلة لا ينبغي للفقيه أن يهملها .

                                                                                                                نظائر : قال أبو عمران : ثلاثة مسائل تختص بالأنصباء دون الرءوس : الشفعة ، وزكاة الفطر على العبد المشترى ، والتقويم في العتق ، وستة مسائل تختص بالرءوس دون الأنصباء : أجرة القاسم ، وكنس المراحيض ، وحراسة أعدال المتاع ، وبيوت الغلات ، وأجرة السقي على المشهور ، وحارس الدابة ، والصيد ، لا تعتبر كثرة الكلاب ، زاد العبدي في نظائره : كنس السواقي .

                                                                                                                ( تفريع )

                                                                                                                قال اللخمي : قال محمد : الشفعة كعبد بين ثلاثة ، الثلث والسدس والنصف ، فأعتق صاحب النصف والسدس معا ; فإنه يقوم عليهما أرباعا على الأنصباء ، وقال عبد الملك : بل بالسوية لأنه لو اعتبر كثرة النصيب لقوم جميع الرقيق منه على القليل وكثير النصيب ، وعلى هذا تكون الشفعة ، لأن الضرر اللاحق لقليل النصيب أكثر في المقاسمة ; فإن نصيبه قد يقل فلا يشفع به بعد القسمة ، وهذا إذا كانت فيما ينقسم ، وإن كانت فيما لا ينقسم وحكم بها فيه فهي على العدد ، ولا تراعى الأنصباء لأنها إنما [ ص: 335 ] جعلت لدفع الضرر في طلب المشتري البيع ، ويستوي في ذلك القليل والكثير ، قال صاحب التنبيهات : وعن مالك : هي على عدد الرءوس : يتحصل ثلاثة أقوال : قولان لمالك في الرءوس والأنصباء ، وتفرقة اللخمي فيما ينقسم .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا اختلفا في الثمن صدق المبتاع ، لأنه مدعى عليه إخراج ملكه بما لا يرضى إلا أن يأتي بما لا يتغابن بمثله فلا يصدق إلا أن يكون ملكا ولعلها : مالكا . يرغب في الدار المجاورة له فيصدق ، لأن شأنه أن يبدل كبر العرصة ; فإن أقاما بينة وكانا في العدالة سواء سقطتا وصدق المبتاع ، لأنه صاحب اليد . في التنبيهات : قوله : لأنه صاحب اليد : قيل : مفهومه : لو كانت في يد الشفيع كان خلاف ذلك فاتت أم لا ، وقال في كتاب الرواحل : يصدق المكتري لقبضه الراحلة ، ولأن تسليم الشقص للشفيع كتسليم الشفعة للمشتري ، ويختلف هل يصدق بنفس تسليمها أو حتى يبين بها أو حتى تفوت ؟ قال التونسي : يصدق المشتري ولم يقل يحلف أم لا ، قال محمد : إذا ادعى الشفيع حضور المبايعة حلف المشتري ، وإن لم يحقق لا يحلف ، لأن أيمان التهم لا تلزم إلا من تليق به التهمة ، وقال أشهب : يصدق المشتري بغير يمين إذا أتى بما يشبه صدق مع يمينه ، وإن اختلف البائع والمشتري في الثمن تحالفا وتفاسخا وبطلت الشفعة ، ويشبه إن رضي الشفيع بكتب عهدته على البائع أن يأخذ شقصه كما قيل : لو باع الشقص من غائب أخذ على أحد القولين منه ; فإن جاء المشتري فأنكر قيل : تبقى عهدته على البائع إن شاء ، واستحسنه محمد ، وقيل : يرد الشقص ، قال التونسي : إن نكل المشتري لما حلف البائع وجب البيع على المشتري بما قال البائع ، ويأخذ الشفيع بقول المشتري مؤاخذة له بإقراره ، قال : وفيه نظر ، لأنه إنما خلص الشقص بزيادة البائع ، لأن المشتري لو حلف انتقض البيع ، فكأنه ابتدأ البيع بالأكثر ، ولو غرم المشتري على [ ص: 336 ] الشقص غرما : قال : يحتمل أن يأخذ الشفيع بالثمن والغرم ، وقد اختلف فيمن فدى شيئا من اللصوص هل يأخذه ربه بالغرم أم لا ؟ وإذا اختلف الشفيع والمشتري لا يشفع لتصديق البائع لأحدهما لاتهامه في نقل العهدة عن نفسه إذا استحق الشقص ، ولو شهد للمشتري فلا تهمة إلا من باب شهادته على فعل نفسه لتضرره بإقراره أن الذي يرجع عليه من عهدة الشقص أكثر مما قال الشفيع ; فإن أتى الشفيع والمشتري بما لا يشبه فأعدل الأقوال : يحلفان لتساويهما ، ويأخذ الشفيع بالقيمة ; فإن نكل أحدهما صدق الحالف ; فإن طال الزمان حتى نسيا الثمن وقال المشتري : لا أعرفه لطول الزمان وغيبة الشفيع ، سقطت الشفعة للتعذر ، ولو شهدت بينة المشتري بمائة وبينة الشفيع بخمسين ; فإن كان في مجلس واحد تكاذبا على أحد القولين فيقضي بأعدلهما ، وإن تكافأتا سقطتا وصدق المشتري ، وعلى القول الآخر : تقدم بينة المشتري لأنها زادت ما لم تعلمه الأخرى ، أو في مجلسين كانا بينتين يشفع بما يريد ، وله الأخذ بالخمسين ، لأنه يحمل على أنه أقاله ، ثم اشترى ثانيا منه أو من غيره ، ولو كانت دار في يد رجل وأقام غيره بينة بشرائها من المدعي ; فإن وقتتا حكم بأقربهما وقتا وإلا تحالفا وقسمت بينهما إن لم تكن في يد واحد منهما ، وإلا هي لصاحب اليد بعد حلفه ; فإن كان شقصا وهو في يد أحدهما فحلف أخذ الشفيع بالثمن الذي أقر به ، أو بأيديهما أخذ من كل واحد نصفه بالثمن الذي أقر أنه اشتراه به ، قال ابن يونس : قوله في الكتاب : إذا تكافأت العدالة سقطتا ، قال سحنون : تقدم بينة المبتاع لأنها زادت كاختلاف المتبايعين في الثمن ، قال سحنون : وإذا لم يقيما بينة وظهر للحاكم مجاوزة الثمن إلى حد الحيلة لقطع الشفعة رد إلى الأشبه .

                                                                                                                وإن ادعى الشفيع علم الثمن قضي له مع يمينه إلى أن يأتي بأقل من القيمة ، وإذا قال البائع : بعت بمائتين ، وقال المبتاع : مائة ، وقال الشفيع : خمسين ، أو لم يدع شيئا ولم يفت بطول الزمان أو تغير سوق أو هدم أو بيع أو نحو ذلك وهي بيد المبتاع أو البائع : ففي الكتاب : يصدق البائع ويترادان بعد التحالف ، وتبطل الشفعة ، وليس له أن يأخذها بمائتين ، وتمنع من رد البيع لأنه لا شفعة حتى يتم البيع ، فتكون العهدة على المبتاع . وهاهنا هي على [ ص: 337 ] البائع ، ألا ترى أنه لا شفعة في هبة الثواب إلا بعد العوض ، وقيل : لو رضي بالعهدة على البائع شفع ، قال اللخمي : إذا كان الثمن عرضا واختلفا في قيمته وصفه أهل المعرفة وأخذ بتلك القيمة ، وإن نقص سوقه أو زاد فالقيمة يوم الشراء ، وإن اختلفا في مقدار نقص السوق أو زيادته صدق المشتري ، ومتى أشكل أمر التغير صدق مدعي تبقيته عملا بالاستصحاب ، وإن هلك العرض واختلفا في صفته صدق المشتري إلا أن يأتي بما لا يشبه فيصدق الشفيع ، وإن أتى بما لا يشبه : قال ابن دينار : ومن اشترى أرضا فقام الشفيع وادعى عدم القسمة صدق ، لأن الأصل : بقاء الملك مشتركا ، وقاله ابن القاسم ، وكذلك لو قال : اشتريت بعد القسم ، وإذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن في خمسين ومائة تحالفا وتفاسخا وسقطت الشفعة ; فإن نكل البائع وحلف المشتري غرم خمسين وشفع بها الشفيع ; فإن نكل المشتري وحلف البائع أخذ بمائة . واختلف بما يشفع ، فقال أشهب : بخمسين لأنها التي أقر بها المشتري ، ويقول : ظلمني البائع بيمينه ، ولو رجع المشتري إلى ما قاله البائع ما قبل منه ، وقال عبد الملك : بمائة لأنه الثمن المحلوف به ; فإن أحب الشفيع قبل فسخ العقد الأخذ بمائة فله على قول ابن القاسم ، وليس له عند أشهب قياسا على قولهم : إذا استحق بعض الأرض وكان ذلك عيبا يوجب للمشتري الرد قال الشفيع : أنا آخذه ، وقال المشتري : أرد ، قدم ابن القاسم الشفيع ، وأشهب : المشتري للعهدة التي تكتب عليه ، وله الشفعة قبل التحالف أو بعد يمين أحدهما وبعد أيمانهما على القول بأن البيع منعقد حتى يحكم بفسخه ، ولو اختلفا بعد فوت الشقص صدق ابن القاسم المشتري وأشفعه بخمسين ، وقال أشهب : يتحالفان ويغرم المشتري قيمته يوم البيع إلا أن يكون أكثر مما ادعى البائع أو أقل مما قاله المشتري ، ثم يشفع بما يستقر من القيمة ، فجعل الشفعة بالقيمة ، لأن أيمانهما عنده فسخ للعقد ، والقيمة بدل من رد العين فهي الثمن ، بخلاف إذا حلف ونكل المشتري [ ص: 338 ] لبقاء العقد ، وإذا قال المشتري : نسيت الثمن لطول المدة ، أو مات المشتري وقالت الورثة : لا علم عندنا ، أو كان الشفيع غائبا أو صغيرا : سقطت الشفعة عند ابن القاسم ، وإن كان على غير ذلك : فالشفعة بالقيمة عنده إذا لم يعقد ، وقال عبد الملك : إذا جاء الشفيع إلى ولد المبتاع بعد طول المدة حلف الولد على نفي العلم وشفع بالقيمة ، وكذلك لو كان صبيا وقال : لا أدري الثمن ، حلف ; فإن نكل : حلف الشفيع إن شاء ، وقيل للمبتاع : متى أحببت حقك فخذه ، وإن حلف فله القيمة يوم أسلمه إلى الشفيع ، وإن قال الشفيع : لا أقبضه لاحتمال كثرة ثمنه ، فلا بد من يمين المبتاع : أنه ما علم ، وقيل : إذا اختلفا فجاء المشتري بما لا يشبه ، أو جهل الثمن ، شفع بالقيمة يوم البيع ، وإن أقر المالك بالبيع وأنكر الآخر الشراء صدق في عدم الشراء ، لأنه الأصل ولا شفعة ، وفي كتاب محمد : بعت من فلان الغائب ، إن بعدت الغيبة شفع لإقراره أنه أولى منه ; فإن قدم وأقر كتبت العهدة عليه ، وإن أنكر حلف ورجع الشقص للبائع ، وقال محمد : أحب إلي أن لا يرجع لإقرار البائع أن الشفيع أحق منه ، وتكتب عهدة الثمن على البائع ، قال اللخمي : وقول محمد أصوب ، والحاضر مثله له الشفعة ، لأن المالك مقر بانتقال ملكه ، وأن الشفعة واجبة للشفيع ، وأن المشتري ظلمه بجحوده ، وخالفنا ( ح ) فقال : إذا أقر المالك بالبيع وأنكر المشتري ( كذا ) وأشار الناسخ بالهامش إلى أنه سقط من هنا شيء . لنا : أن المشتري أصل الشفيع ولم يثبت فلا يثبت . احتج بأن في إقراره حقا للمشتري والشفيع ، وإن لم يقبل المشتري حقه بقي حق الشفيع ، ولأن الفرع قد يثبت حيث لا يثبت أصله ، كإقرار أحد الأخوين بأخ ثالث يثبت الإرث دون النسب .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الذي لم يثبت أصل لما بقي ، فينتفي الباقي لانتفاء أصله ، بخلاف إذا أقر لرجلين فكذبه أحدهما .

                                                                                                                والجواب عن الثاني : أن إقرار الأخ معناه : أنت مستحق لما في يدي فقبل [ ص: 339 ] والبائع يقول : أنت تستحق على المشتري فهو مقر على الغير فافترقا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية