الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : إلا جلد الخنزير والآدمي ) يعني كل إهاب دبغ جاز استعماله شرعا إلا جلد الخنزير لنجاسة عينه وجلد الآدمي لكرامته ، وبهذا التقرير اندفع ما قيل إن الاستثناء من الطهارة نجاسة ، وهذا في جلد الخنزير مسلم ، فإنه لا يطهر بالدباغ وأما جلد [ ص: 106 ] الآدمي فقد ذكر في الغاية أنه إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه فكيف يصح هذا الاستثناء وقيل جلد الخنزير والآدمي لا يقبلان الدباغ ; لأن لهما جلودا مترادفة بعضها فوق بعض ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا كما لا يخفى ، وإنما استثنى الجلد ولم يستثن الإهاب مع كونه مناسبا للمستثنى منه ، وهو قوله كل إهاب دبغ لما أن الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ فكان مهيأ للدباغ يقال تأهب لكذا إذا تهيأ له ، واستعد وجلد الخنزير والآدمي لا يتهيآن للدبغ ; فلذا استثنى بلفظ الجلد دون الإهاب ، وإنما قدم الخنزير على الآدمي في الذكر ; لأن الموضع موضع إهانة لكونه في بيان النجاسة وتأخير الآدمي في ذلك أكمل فحاصله أن من المشايخ من قال إنما لا يطهر جلد الخنزير بالدباغ ; لأنه لا يندبغ ; لأن شعره ينبت من لحمه ، ولو تصور دبغه لطهر وقال بعضهم : لا يطهر ، وإن اندبغ ; لأنه محرم العين كذا في معراج الدراية وفي المبسوط روي عن أبي يوسف أنه يطهر بالدباغ ، وفي ظاهر الرواية لا يطهر إما ; لأنه لا يحتمل الدباغ أو ; لأن عينه نجس . ا هـ .

                                                                                        وأما الآدمي فقد قال بعضهم : إن جلده لا يحتمل الدباغة حتى لو قبلها طهر ; لأنه ليس بنحس العين لكن لا يجوز الانتفاع به ولا يجوز دبغه احتراما له ، وعليه إجماع المسلمين كما نقله ابن حزم وقال بعضهم : إن جلده لا يطهر بالدباغة أصلا احتراما له فالقول بعدم طهارة جلده تعظيم له حتى لا يتجرأ أحد على سلخه ودبغه واستعماله

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : وبهذا التقرير اندفع ما قيل ) أي ما قاله بعض شراح الوقاية ، وهذا التقرير لبعض محشي صدر الشريعة قال الفاضل قاضي زاده ثم أنه قال الزيلعي في شرح الكنز واستثناء الآدمي مع الخنزير يدل على أنه لا يطهر وليس كذلك بل إذا دبغ طهر ، ولكن لا يجوز به الانتفاع لسائر أجزائه وقال بعض شراح الوقاية : والاستثناء من الطهارة نجاسة ، وهذا في جلد الخنزير مسلم ، فإنه لا يطهر بالدباغ ، وأما جلد الآدمي ففي غاية السروجي ذكر أنه إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه فكيف يصح هذا الاستثناء وقصد المحشي يعقوب باشا أن يصحح هذا الاستثناء فقال يعني جاز استعماله شرعا إلا جلد الخنزير لنجاسته وجلد الآدمي لكرامته ثم قال فلا يرد ما قيل إن الاستثناء من الطهارة نجاسة ، وهذا في جلد الخنزير مسلم ، فإنه لا يطهر بالدباغ ، وأما جلد الآدمي فقد ذكر أنه إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه فكيف يصح هذا الاستثناء قلت فيه خلل ; لأنه إذا أراد معنى قول المصنف هو معنى جاز استعماله شرعا فليس كذلك وإن أراد أن معنى قوله طهر يستلزم معنى جاز استعماله شرعا فيتعلق الاستثناء بذلك المعنى المنفهم من الكلام المذكور التزاما لا بصريح معنى الكلام المذكور فيصح الاستثناء بالنظر إلى الآدمي أيضا لعدم جواز استعماله شرعا كعدم جواز استعمال جلد الخنزير ، وإن كانت علة جواز الاستعمال مختلفة فيهما قلنا يلزم حينئذ أن يبقى صريح معنى الكلام المذكور على كليته بلا استثناء شيء منه وليس بصحيح إذ لا يطهر جلد الخنزير بالدباغ فلا صحة للكلية المذكورة لا يقال يجوز أن يكون مراد صدر الشريعة بقوله فقد طهر معنى فقد جاز استعماله شرعا مجازا بطريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم ويجعل استثناء الآدمي قرينة عليه فلا يراد حقيقة قوله فقد طهر .

                                                                                        [ ص: 106 ] لامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز فلا تكون الكلية إلا في جواز الاستعمال ، وقد استثنى منه جلد الخنزير والآدمي فلا يلزم المحذور ; لأنا نقول طهارة الشيء حقيقة لا تستلزم جواز استعماله شرعا ألا يرى أن جلد الآدمي إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به شرعا احتراما له نص عليه في المحيط والبدائع وغيرهما وكذا شعر الإنسان وعظمه طاهران عندنا ولكن لا يجوز الانتفاع بشيء منهما لكرامة الإنسان على ما صرحوا به قاطبة فلم تتحقق علاقة اللزوم بين طهر وبين جاز استعماله شرعا حتى يصح حمل قوله فقد طهر على معنى فقد جاز استعماله شرعا مجازا بعلاقة اللزوم وأيضا قوله وكل إهاب دبغ فقد طهر ليس عبارته فقط بل هو كلام عامة الفقهاء ولا شك أن مرادهم به ليس مجرد جواز استعماله شرعا بل بيان طهارته حقيقة ، وإلا يلزم أن يكون بيان طهارته حقيقة متروكا بالكلية مع كونه أمرا مهما يترتب عليه كثير من المسائل منها إذا وقع منه شيء في الماء الراكد القليل لا ينجسه ومنها إذا وقع منه في بدن المصلي أو في ثوبه تجوز الصلاة به إلى غير ذلك وأيضا قد استدلوا عليه بقوله عليه السلام { أيما إهاب دبغ طهر } ولم ينازع أحد في كون المراد بالطهارة فيه هو الطهارة حقيقة ا هـ .

                                                                                        ما ذكره الفاضل قاضي زاده وأجاب بعضهم عن الأول بأنه لا تنحصر العلاقة في اللزوم فليكن طهر مجازا عن جاز استعماله شرعا بعلاقة أخرى ; لأن بينهما علاقة السببية والمسببية متحققة لا تنكر بالكلية ، وإن لم يكن بينهما علاقة اللزوم . ا هـ .

                                                                                        أقول : يعني أن السببية متحققة في الجملة ، وإن لم تكن مطردة ; لأن طهارة جلد الإنسان وعظمه وشعره ليست سببا لجواز استعماله شرعا كما أنها ليست ملزومة لها ، والأولى ما ذكره المؤلف من القول بأن الاستثناء منقطع أو يقال عبر عن عدم جواز الانتفاع شرعا بجلد الآدمي بعدم طهارته مشاكلة لذكره مع الخنزير الذي لا يطهر جلده بالدباغ حقيقة فتدبر ( قوله : وإنما قدم الخنزير ) أي في هذا المحل كما في أكثر الكتب ; لأن الموضع موضع إهانة أو لأن فيه إشارة إلى كمال عدم قابلية الطهارة في الخنزير والتأخير في أمثال هذه المواضع يفيد التعظيم كما في قوله تعالى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر } والمصنف قدم الآدمي نظرا إلى كرامته وذكر في الخلاصة عن أبي يوسف أن الخنزير إذا ذبح يطهر جلده بالدباغ والله تعالى أعلم .




                                                                                        الخدمات العلمية