الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6581 [ ص: 107 ] 91

                                                                                                                                                                                                                              كتاب التعبير

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 108 ] [ ص: 109 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                              91 - كتاب التعبير ]

                                                                                                                                                                                                                              1 - باب أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة

                                                                                                                                                                                                                              6982 - حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب . وحدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، قال الزهري : فأخبرني عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد - الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني . فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق [ ص: 110 ] حتى بلغ ما لم يعلم " [العلق :1 - 5 ] فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : "زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال : "يا خديجة ، ما لي ؟ " . وأخبرها الخبر وقال : "قد خشيت على نفسي" . فقالت له : كلا ، أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .

                                                                                                                                                                                                                              ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى - وهو ابن عم خديجة أخو أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي - فقالت له خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابن أخي ، ماذا ترى ؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أومخرجي هم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقي منه نفسه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .
                                                                                                                                                                                                                              [انظر : 3 - مسلم : 160 - فتح: 12 \ 351 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس : فالق الإصباح [الأنعام : 96 ] ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 111 ] ساق فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - السالف في أول "الصحيح" بطوله بزيادة سلف عليها التنبيه هناك ، وفي آخره : وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : فالق الإصباح [الأنعام : 96 ] ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفناه هناك بفوائده فوق الستين فائدة ، وسلف هذا التعليق مسندا في التفسير ، وتقدم قول مجاهد من عند ابن أبي شيبة : وعلمتني من تأويل الأحاديث [يوسف : 101 ] ، قال : عبارة الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن المرء ينبه على فعل الخير بما فيه مشقة كما فتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الصلاة من يساره إلى يمينه ، وقد سلف معنى "غطني " . وعبارة الداودي : معنى غطني : صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية والحزن بضم الحاء وسكون الزاي ، وبفتحهما . وقال أبو عمرو : إذا جاء الحزن في موضع رفع أو جر ، ضمت ، تقرأ وابيضت عيناه من الحزن [يوسف : 84 ] بالضم لا يجوز الفتح ؛ لأنه في موضع جر ، وقال تعالى : تفيض من الدمع حزنا [التوبة : 92 ] بالفتح .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : مؤزرا ، سلف الكلام فيه ، ومما لم أذكره هناك ما قاله القزاز : أحسب أن الألف سقطت من أمام الواو إذ لا أصل لمؤزر بغير ألف في كلام العرب ، إنما هو من مؤازر من وازرته موازرة : إذا [ ص: 112 ] عاونته ، ومنه أخذ وزير الملك ، فعلى هذا يقرأ موزرا بغير همز ، وقيل : هو مأخوذ من الأزر : وهو القوة ، ومنه قوله تعالى : اشدد به أزري [طه : 31 ] أي : قوتي ، وقيل : ظهري . قال الجوهري : آزرت فلانا : عاونته ، والعامة تقول : وازرته .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( تبدى له جبريل ) . أي : ظهر ، غير مهموز ، وقوله : ( بذروة جبل ) هو بكسر الذال ، وقال ابن التين : رويناه بكسر الذال وضمها ، وهو في ضبط كتب اللغة بالكسر .

                                                                                                                                                                                                                              وقول ابن عباس : وضوء القمر بالليل . قال ابن التين : هو غير ظاهر ، ولعله محمول على أن الإصباح : الضياء ، فيكون معناه : ضياء الشمس بالنهار والقمر بالليل ، وإنما أراد البخاري هنا الاستدلال على تفسير : (جاء مثل (فلق ) الصبح ) ، والمعنى : أنها تأتي (بينة مثل ذلك ) في إنارته وإضاءته وصحته . وقال الحسن وعيسى : الأصباح : جمع صبح ، ومعنى فالق : شاق بمعنى : خالق .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( فيسكن لذلك جأشه ) قال صاحب "العين " : إنه النفس .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : الرؤيا الصالحة الصادقة قد يراها المسلم والكافر والناس كلهم ، إلا أن ذلك يقع لهم في النادر والوقت دون الأوقات ، وخص سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعموم صدق رؤياه كلها ومنع الشيطان أن [ ص: 113 ] يتمثل في صورته ؛ لئلا يتسور بالكذب على لسانه في النوم ، والرؤيا جزء من أجزاء الوحي وكذا قال القاضي عياض عن بعض العلماء أنه قال : خص الله نبيه بأن رؤية الناس إياه صحيحة على -ما ذكرناه إلى قوله : في النوم - وكذلك استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة ، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل ، ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا المتصور ، فحماه الله من الشيطان ونزغه وكيده ، وكذا حمى رؤياه لأنفسهم .

                                                                                                                                                                                                                              واتفق العلماء على جواز رؤية البارئ تعالى في المنام وصحتها ، ولو رآه إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجسام ؛ لأن (ذلك ) المرئي غير ذات الله تعالى ، ولا يجوز عليه التجسيم ، ولا اختلاف الأحوال ، بخلاف رؤية سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : فإن الشيطان قد تسور عليه في اليقظة ، وألقى في أمنيته - عليه السلام - ، قيل : ذلك التسور لم يستقم ، بل تلافاه الله -عز وجل - في الوقت بالنسخ وأحكم آياته ، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل التنزيه عليه ؛ لئلا يغلو مغلون فيه فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى وعزير .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : كيف منع الشيطان أن يتمثل في صورته - عليه السلام - في المنام ، وأطلق له أن يتمثل ويدعي أنه البارئ تعالى ، والصور لا تجوز على البارئ ؟

                                                                                                                                                                                                                              قيل : سره أنه إنما منع أن يتصور في صورته - عليه السلام - الذي هو صورته في الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة الرؤية من ضعفها ، وأطلق له أن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 114 ] يتصور على ما تصوره ، ولا يجوز عليه دلالة للعلم أيضا وسببا إليه ، لأنه قد تقرر في نفوس البشر أنه لا يجوز التجسيم على البارئ تعالى ، فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم (في النوم ) دليل على علم ما لا سبيل إلى معرفته إلا بطريق التمثيل في البارئ تعالى مرة ، وفي سائر الأرباب والسلاطين مرة ؛ وكذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني في "انتصاره " : إن رؤية البارئ تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب في أمثال لا تليق به تعالى في الحقيقة ، وتعالى سبحانه عنها ؛ دلالة للرأي على أنه أمر كان أو يكون كسائر المرئيات . وهذا كلام حسن ؛ لأنه لما كان خرق العادة دليلا على صحة العلم في اليقظة في الأنبياء بهديها (الحق ) ، جعل خروق العادة الجائزة على نبيه بتصور الشيطان على مثاله بالمنع من ذلك دليلا على صحة العلم .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : كيف يجب أن تكون الرؤيا إذا رأى فيها البارئ تعالى صادقة أبدا ، كما كانت الرؤيا التي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟

                                                                                                                                                                                                                              فالجواب : أنه لما كان تعالى قد يعبر به في النوم على سائر السلاطين ؛ لأنه سلطانهم ويعبر به عن (الأولياء ) والسادة والمالك ، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب ، فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم ، ووجدنا النبيين لا يجوز الكذب على أحد منهم ، ولا على شيء من حالهم ، فأبقيت (حال ) النبوة في النوم على ما هي عليه في اليقظة من الصدق برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا قام الدليل [ ص: 115 ] عند العابر على الرؤيا التي نرى فيها البارئ أنه البارئ لا يراد به غيره ، لم يجز في تلك الرؤيا التي قام فيها دليل الحق على الله كذبا أصلا لا في مقال ولا في فعال ، فتشابهت الرؤيا من حيث اتفقت في معنى الصدق ، واختلفت من حيث جاز غير ذلك ، وهذا ما لا ذهاب عنه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              سيأتي أن الشيطان لا يتمثل به .

                                                                                                                                                                                                                              قال المازري : وفيه إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثا ، وأنها تكون حقا ، وقد يراه الرائي على غير صفته المنقولة إلينا ، كما لو رآه شخص أبيض اللحية ، أو على خلاف لونه ، أو تراه رؤيتان في زمن واحد ، أحدهما : بالمشرق ، والآخر بالمغرب ، ويراه كل منهما معه في مكانه . وقال آخرون : الحديث محمول على ظاهره ، والمراد : أن من رآه فقد أدركه ، ولا مانع يمنع من ذلك ، ولا يحيله العقل حتى يضطر إلى صرف الكلام عن ظاهره ، وأما الاعتلال بأنه قد يرى على غير صفته المعروفة ، وفي مكانين مختلفين فإن ذلك غلط في صفاته ، وتخييل لها على غير ما هي عليه ، وقد نظن بعض الخيالات مرئيات ؛ لكون ما يتخيل مرتبطا بما يرى في العادة ، فتكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية ، والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا (قرب ) المسافات ، ولا كون (المرئي ) مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها وإنما يشترط كونه موجودا ، والأخبار دالة على بقائه [ ص: 116 ] فيكون اختلاف الصفات المتخيلة يمر بها اختلاف الدلالات ، وقد ذكر الكرماني : أن من رآه شيخا فهو عام سلم ، أو شابا فهو عام حرب ، وذلك أحد أجوبتهم عنه لو رأى أنه (أمر ) بقتل من لا يحل قتله ، فإن ذلك من الصفات المتخيلة لا المرئية .

                                                                                                                                                                                                                              وجوابهم . الثاني يمنع وقوع مثل هذا ، ولا وجه عندي لمنعهم إياه مع قولهم في تخيل الصفات ، فهذا انفصال هؤلاء عما احتج به القاضي ، وللمسألة تعلق بغامض الكلام في الإدراكات وحقائق متعلقاتها ، وبسطه خارج عما نحن فيه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              لا يفتك أن المنام جعله الله رحمة ليستريح بدنه من تعبه (ودونه ) ونصبه ، لما علم تعالى عجز الروح عن القيام بتدبير البدن دائما ، والنوم هو أبخرة تحيط بالروح القائم بالبدن فتحجبه عن التدبير ، وما هو في المثال كالملك إذا حجب نفسه عن تدبير مملكته ؛ ليستريح ويستريح أعوانه في وقت حجبه ، وفيه تسخن الباطن وإجادة الهضم ، وإذا أفرط فلا تكون الرأس بالاختلاط ترطب الجسوم أو ترخها وتطفئ الحر [ ص: 117 ] الذي فيها . كما ذكره ابن سينا في "أرجوزته" ومن الحكمة الإلهية جعله حين غيبة الروح المدبر ثلاثة أنفس ، وتسمى القوى قوة التخيل والفكر والذكر ، ومن حكمه أيضا أن اليقظة ما إن تمكن يعرف الإنسان كل ما يحدث في الوجود كل وقت إذ لو كان ذلك كذلك ؛ لتساوى الناس بالصالحين بخلاف النوم .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              والرؤيا قسمان : صحيح وفاسد ، فالأول : ما كان ضمن اللوح المحفوظ ، وهو الذي تترتب عليه الأحكام ، والثاني : لا حكم له ، وهو خمسة أقسام : حديث النفس : بأن يحدث في اليقظة نفسه بشيء فيراه في المنام ، أو من غلبة الدم ، أو من غلبة الصفراء ، أو غلبة البلغم ، أو السوداء .

                                                                                                                                                                                                                              (فصل ) :

                                                                                                                                                                                                                              قال المازري : قد أكثر الناس في حقيقة الرؤيا ، وقال فيها غير أهل الإسلام أقاويل كثيرة منكرة لما حاولوا الوقوف على حقائق لا تعلم بالعقل ، ولا يقوم عليها برهان ، وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت لذلك مقالاتهم ، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميعها إلى غليظ الأخلاط ، وهذا مذهب وإن جوزه العقل فإنه لم يقم عليه دليل ، ولا اطردت به عادة ، والقطع في موضع التجويز غلط وجهالة ، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد ، وأما إن أضافوا الفعل إليها فإنا نقطع بخطئهم ، وسيأتي بقية كلامه في باب الرؤيا الصالحة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 118 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              ذكر الإمام أبو محمد عبد المعطي بن أبي الثناء محمود في كتابه "مقامات الإيمان والإحسان" أن النوم تارة يكون نوم غفلة ، وتارة يكون نوم جهل عن العلم ، وتارة يكون نوم فترة وشغل ، وتارة يكون نوم راحة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              الرؤيا أيضا تنقسم على أنواع أربعة : محمودة ظاهرا وباطنا ، كمن يرى أنه كلم البارئ تعالى ، أو أحدا من الأنبياء في صفة حسنة وبكلام طيب ، وعكسه كمن يرى أن حية لدغته أو نارا أحرقته وشبهه ، ومحمودة ظاهرا لا باطنا كسماع الملاهي وشم الأزهار ، وعكسه كمن يرى أنه ينكح أمه أو يذبح ولده .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : الرؤيا ثلاث : رؤيا (ترى ) من الله ، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه ، ورؤيا تحزن من الشيطان ، وسيأتي في باب القيد في المنام الخلف في وقفه وإرساله .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              الغالب في الرؤيا الجيدة تأخير تفسيرها بخلاف الرديئة وربما كانت له أو لغيره ، وربما لا تكون له ولا لمن رئيت له ، لكنها تكون لغيره من أقاربه أو معارفه ، وربما رأى في نومه أشياء ودلالتها على شيء واحد وبالعكس ، وربما كان للرائي وحده ، وربما كان لمن يحكم عليه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 119 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              المنام أيضا يختلف باختلاف اللغات والأديان والأزمان والصنائع والعادات والمعايش والأمراض والموت والحياة .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة :

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سيده : يقال : عبر الرؤيا يعبرها (عبرا وعبارة ، وعبرها : فسرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها ، واستعبره إياها : سأله تعبيرها ) . وقال الأزهري عن أبي الهيثم : العابر الذي ينظر في الكتاب فيعبره ، أي : يعبر بعضه ببعض حتى يقع فهمه عليه ، ولذلك قيل : عبر الرؤيا وأعبر فلان كذا ، وقال غيره : أخذ هذا كله من العبر وهو جانب النهر ، وفلان في ذلك العبر . أي : في ذلك الجانب ، وعبرت النهر والطريق عبورا إذا قطعته من هذا الجانب إلى ذلك الجانب ، فقيل لعابر الرؤيا : (عابرا ) ؛ لأنه يتأمل ناحيتي الرؤيا وأطرافها ، ويتدبر كل شيء منها ويمضي فكره فيها من أول رؤياه إلى آخرها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القزاز في"جامعه " : كأن عابر الرؤيا جاز المثل إلى التأويل ؛ لأن الرؤيا إنما هي مثل يضرب لصاحبها فإذا عبرها المعبر فقد جاز ذلك المثل إلى معناه . وقال قوم : إنما معناه : أنه يخرجها من حال النوم إلى ما يحب من اليقظة ، وقد عبرها فهو عابر وعبرها فهو (معبر ) .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 120 ] وعند الهروي : العابر الناظر في الشيء . ومنه قول ابن سيرين : إني اعتبرت الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              يريد : أنه اعتبر الرؤيا عن الحديث ويجعله اعتبارا كما يعتبر القرآن في تعبير الرؤيا يقال : هو عابر الرؤيا وعابر للرؤيا ، وعبرتها وعبرتها واحد .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية