الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 333 ] الآية الثامنة عشرة :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } .

                                                                                                                                                                                                              فيها ثلاث مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : روى مالك وغيره أن عمر بن الخطاب { سئل عن هذه الآية : { وإذ أخذ ربك من بني آدم } فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال : إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون . فقال رجل : يا رسول الله ; ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار }

                                                                                                                                                                                                              وقد تكلم في سند هذا الحديث بكلام [ قد ] بيناه في كتاب المشكلين .

                                                                                                                                                                                                              وقد ثبت وصح عن أبي هريرة أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه . فقال : يا [ ص: 334 ] رب ; من هذا ؟ قال : رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود . فقال : رب كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة . فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت ، فقال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ; ونسي آدم فنسيت ذريته ; وخطئ آدم ، فأخطأت ذريته } . خرجه أبو عيسى وصححه ، ومن رواية غيره ، { فمن حينئذ أمر بالكتاب والشهود } وفي رواية : { أنه رأى فيهم الضعيف والغني والفقير والمبتلى والصحيح فقال له آدم : يا رب ، ما هذا ؟ ألا سويت بينهم ؟ قال : أردت أن أشكر } . وفي رواية أخرى : أنه { أخرجهم من صلب آدم كهيئة الذر ، ثم أخذ عليهم الميثاق ، ثم أعيدوا في صلبه } . وفي رواية أن عمر خطب بالجابية ، فقال : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . فقال الجاثليق : تركست تركست . فقال الراوي : يقول معاذ الله ، لا يضل الله أحدا . فقال عمر : بل الله خلقك ثم أضلك ، ثم يميتك ، ثم يدخلك النار ; والله لولا ولث من عهدك لضربت عنقك . فقال : إن الله لما خلق نثر ذرية آدم في كفيه ، فقال : هؤلاء للجنة وما هم عاملون ، وهؤلاء للنار وما هم عاملون ، وهذه لهذه ، وهذه لهذه ; قال : فتفرق الناس . وما يختلف اثنان في القدر . وفي رواية عن ابن عمر : { خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو قابض على شيئين في يديه ، ففتح اليمين ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، كتاب من الرحمن الرحيم ، فيه أسماء أهل الجنة بأعدادهم وأعمالهم وأحسابهم ، فجمع عليهم إلى يوم القيامة ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم ، وقد يسلك السعداء طريق أهل الشقاء حتى يقال : هم منهم . هم منهم ، ثم [ ص: 335 ] تدرك أحدهم سعادته ولو قبل موته بفواق ناقة . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : العمل بخواتمه ، العمل بخواتمه }

                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب مقادير الخلق إلى يوم القيامة } وثبت في الصحيح أنه { قيل : يا رسول الله ; هذا الأمر الذي نحن فيه أمر مستأنف أم أمر قد فرغ منه ؟ فقال : فرغ ربكم . قالوا : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ; أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة . ومن كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء . ثم قرأ : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } }

                                                                                                                                                                                                              وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها } . [ ص: 3 36 ]

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم ، وكتبه عليهم ، وساقهم إليه ؟ قلنا : ومن أين يمتنع ذلك ؟ أعقلا أم شرعا ؟ فإن قيل : لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه ، وربنا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

                                                                                                                                                                                                              ولا يجوز أن يقاس الخالق بالمخلوق ، ولا تحمل أفعال الإله على أفعال العباد .

                                                                                                                                                                                                              وبالحقيقة الأفعال كلها لله ، والخلق بأجمعهم له صرفهم كيف شاء ، وحكم فيهم كيف أراد ; وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة ، وشفقة الجنسية ، وحب الثناء والمدح ، لما يتوقع في ذلك من الانتفاع ؟ والباري متقدس عن ذلك كله ; فلا يجوز أن يعتبر به . وقد مهدناه في كتاب المشكلين وفي كتب الأصول .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية