الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وقد تبين بما ذكرنا أن من حرم شيئا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته لم يحرم عليه بذلك ، وعليه كفارة يمين ، وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع .

أحدها : أنه لا يحرم ، وهذا قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة : يحرم تحريما مقيدا تزيله الكفارة ، كما إذا ظاهر من امرأته ، فإنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر ، ولأن الله سبحانه سمى الكفارة في ذلك تحلة ، وهي ما يوجب الحل ، فدل على ثبوت التحريم قبلها ، ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لم تحرم ما أحل الله لك ) ، ولأنه تحريم لما أبيح له ، فيحرم بتحريمه كما لو حرم زوجته .

ومنازعوه يقولون : إنما سميت الكفارة تحلة من الحل الذي هو ضد العقد ، لا من الحل الذي هو مقابل التحريم ، فهي تحل اليمين بعد عقدها ، وأما قوله : ( لم تحرم ما أحل الله لك ) فالمراد تحريم الأمة أو العسل ، ومنع نفسه منه ، وذلك يسمى تحريما ، فهو تحريم بالقول لا إثبات للتحريم شرعا .

وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهار ، أو بقوله : أنت علي حرام ، فلو [ ص: 286 ] صح هذا القياس لوجب تقديم التكفير على الحنث قياسا على الظهار ، إذ كان في معناه ، وعندهم لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث ، فعلى قولهم يلزم أحد أمرين : ولا بد إما أن يفعله حراما ، وقد فرض الله تحلة اليمين ، فيلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض ؛ لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه ، أو أنه لا سبيل له إلى فعله حلالا ؛ لأنه لا يجوز تقديم الكفارة ، فيستفيد بها الحل ، وإقدامه عليه ، وهو حرام ممتنع ، هذا ما قيل في المسألة من الجانبين .

وبعد ، فلها غور ، وفيها دقة وغموض ، فإن من حرم شيئا ، فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه ، ولو حلف على تركه لم يجز له هتك حرمة المحلوف به بفعله ، إلا بالتزام الكفارة ، فإذا التزمها جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه ، فلو عزم على ترك الكفارة ، فإن الشارع لا يبيح له الإقدام على فعل ما حلف عليه ، ويأذن له فيه ، وإنما يأذن له فيه ويبيحه ، إذا التزم ما فرض الله من الكفارة ، فيكون إذنه له فيه وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رخصة من الله له ، ونعمة منه عليه ، بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفارة ، فإذا لم يلتزمه بقي المنع الذي عقده على نفسه إصرا عليه ، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه ، والتزم حكمه ، وقد كانت اليمين في شرع من قبلنا يتحتم الوفاء بها ، ولا يجوز الحنث ، فوسع الله على هذه الأمة وجوز لها الحنث بشرط الكفارة ، فإذا لم يكفر لا قبل ولا بعد لم يوسع له في الحنث فهذا معنى قوله : إنه يحرم حتى يكفر .

وليس هذا من مفردات أبي حنيفة ، بل هو أحد القولين في مذهب أحمد ، يوضحه : أن هذا التحريم والحلف قد تعلق به منعان : منع من نفسه لفعله ، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة ، فلو لم يحرمه تحريمه أو يمينه ، لم يكن لمنعه نفسه ، ولا لمنع الشارع له أثر ، بل كان غاية الأمر أن الشارع أوجب في ذمته بهذا المنع صدقة ، أو عتقا ، أو صوما لا يتوقف عليه حل المحلوف عليه ولا تحريمه البتة ، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق ، فلا يكون للكفارة أثر البتة ، لا في المنع منه ، ولا في الإذن ، وهذا لا يخفى فساده .

[ ص: 287 ] وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيث لا يجوز تقديم الكفارة ، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير ، فعزمه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه ، وإنما يكون التحريم ثابتا إذا لم يلتزم الكفارة ، ومع التزامها لا يستمر التحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية