الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل التاسع : فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته - صلى الله عليه وسلم -

          قال الله - تعالى - : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : 1 ] إلى قوله - تعالى - : يد الله فوق أيديهم . [ الفتح : 10 ] تضمنت هذه الآيات من فضله والثناء عليه ، وكريم منزلته عند الله - تعالى - ، ونعمته لديه ما يقصر الوصف عن الانتهاء إليه ، فابتدأ - جل جلاله - بإعلامه بما قضاه له من القضاء البين بظهوره ، وغلبته على عدوه ، وعلو كلمته ، وشريعته ، وأنه مغفور له ، غير مؤاخذ بما كان وما يكون . قال بعضهم : أراد غفران ما وقع ، وما لم يقع ، أي أنك مغفور لك ، وقال مكي : جعل الله المنة سببا للمغفرة ، وكل من عنده ، لا إله غيره ، منة بعد منة ، وفضلا بعد فضل . ثم قال : ويتم نعمته عليك : قيل بخضوع من تكبر عليك ، وقيل : بفتح مكة ، والطائف ، وقيل : يرفع ذكرك في الدنيا ، وينصرك ، ويغفر لك ، فأعلمه بتمام نعمته عليه بخضوع متكبري عدوه له ، وفتح أهم البلاد عليه ، وأحبها له ، ورفع ذكره ، وهدايته الصراط المستقيم المبلغ الجنة ، والسعادة ، ونصره النصر العزيز ، ومنته على أمته المؤمنين بالسكينة ، والطمأنينة التي جعلها في قلوبهم ، وبشارتهم بما لهم عند ربهم بعد ، وفوزهم العظيم ، والعفو عنهم ، والستر لذنوبهم ، وهلاك عدوه في الدنيا ، والآخرة ، ولعنهم ، وبعدهم من رحمته ، وسوء منقلبهم . ثم قال : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا [ الفتح : 8 ] الآية شاهدا لهم بالتوحيد ، ومبشرا لأمته بالثواب ، وقيل : بالمغفرة ، ومنذرا عدوه بالعذاب ، وقيل : محذرا من الضلالات ليؤمنوا بالله ثم به - صلى الله عليه وسلم - من سبقت له من الله الحسنى ، ويعزروه ، ويجلونه ، وقيل : ينصرونه ، وقيل : يبالغون في تعظيمه ، ويوقروه ، أي يعظمونه ، وقرأه بعضهم : يعززوه [ الفتح : 9 ] بزاءين : من العز ، والأكثر ، والأظهر أن هذا في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال : " ويسبحوه " [ الفتح : 8 ] ، فهذا راجع إلى الله - تعالى - . قال ابن [ ص: 144 ] عطاء جمع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة نعم مختلفة ، من الفتح المبين ، وهو من أعلام الإجابة ، والمغفرة ، وهي من أعلام المحبة ، وتمام النعمة ، وهي من أعلام الاختصاص ، والهداية ، وهي من أعلام الولاية ، فالمغفرة تبرئة من العيوب ، وتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة ، والهداية ، وهي الدعوة إلى المشاهدة .

          وقال جعفر بن محمد : من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه ، وأقسم بحياته ، ونسخ به شرائع غيره ، وعرج به إلى المحل الأعلى ، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر ، وما طغى ، وبعثه إلى الأحمر ، والأسود ، وأحل له ، ولأمته الغنائم ، وجعله شفيعا مشفعا ، وسيد ولد آدم ، وقرن ذكره بذكره ، ورضاه برضاه ، وجعله أحد ركني التوحيد . ثم قال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [ الفتح : 10 ] يعني بيعة الرضوان أي إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] ، يريد عند البيعة . قيل : قوة الله ، وقيل : ثوابه ، وقيل : منته ، وقيل : عقده ، وهذه استعارة ، وتجنيس في الكلام ، وتأكيد لعقد بيعتهم إياه ، وعظم شأن المبايع - صلى الله عليه وسلم - . وقد يكون من هذا قوله - تعالى - : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ الأنفال : 17 ] ، وإن كان الأول في باب المجاز ، وهذا في باب الحقيقة ، لأن القاتل ، والرامي بالحقيقة هو الله ، وهو خالق فعله ، ورميه ، وقدرته عليه ، ومسببه ، ولأنه ليس في قدرة البشر توصيل تلك الرمية حيث وصلت ، حتى لم يبق منهم من لم تملأ عينيه ، وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة ، وقد قيل في هذه الأخرى إنها على المجاز العربي ، ومقابلة اللفظ ، ومناسبته ، أي ما قتلتموهم ، وما رميتهم أنت إذ رميت وجوههم بالحصباء ، والتراب ، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع ، أي أن منفعة الرمي كانت من فعل الله ، فهو القاتل ، والرامي بالمعنى ، وأنت بالاسم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية