الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 109 ] قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : "باب: قول الله عز وجل: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى حديث عمر في سبب نزول هذه الآية، قد خرجه البخاري فيما بعد . وسيأتي في موضعه قريبا - إن شاء الله تعالى . [قال البخاري ] : حدثنا الحميدي : ثنا سفيان : ثنا عمرو بن دينار ، قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة . أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . وسألنا جابر بن عبد الله ، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة . مقصوده من هذا الحديث هاهنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتمر طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وكذلك فعل في حجته - أيضا . وقد روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية عند صلاته خلف المقام: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى خرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                              وهذا كله يدل على أن المراد بمقام إبراهيم في الآية: مقامه المسمى بذلك [ ص: 110 ] عند البيت، وهو الحجر الذي كان فيه أثر قدمه عليه السلام، وهذا قول كثير من المفسرين . وقال كثير منهم: المراد بمقام إبراهيم: الحج كله . وبعضهم قال: الحرم كله . وبعضهم قال: الوقوف بعرفة، ورمي الجمار والطواف، وفسروا المصلى: بالدعاء، وهو موضع الدعاء . وروي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وقد يجمع بين القولين، بأن يقال: الصلاة خلف المقام المعروف داخل فيما أمر به من الاقتداء بإبراهيم عليه السلام مما في أفعاله في مناسك الحج كلها واتخاذها مواضع للدعاء وذكر الله . كما قالت عائشة - وروي مرفوعا -: "إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " . خرجه أبو داود والترمذي .

                                                                                                                                                                                              فدلالة الآية على الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام لا تنافي دلالتها على الوقوف في جميع مواقفه في الحج لذكر الله ودعائه والابتهال إليه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              وبكل حال; فالأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى لا يدخل فيه الصلاة إلى البيت إلا أن تكون الآية نزلت بعد الأمر باستقباله، وحديث عمر قد يشرع بذلك . [ ص: 111 ] فيكون حينئذ مما أمر به من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى: استقبال البيت الذي بناه في الصلاة إليه، كما كان إبراهيم يستقبله، وخصوصا إذا كانت الصلاة عنده . وعلى هذا التقدير يظهر وجه تبويب البخاري على هذه الآية في "أبواب استقبال القبلة"، وإلا ففيه قلق . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : حدثنا عمرو بن عون : ثنا هشيم، عن حميد، عن أنس ، قال: قال عمر : وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية . وقال ابن أبي مريم: أنبأ يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا - بهذا .

                                                                                                                                                                                              هذا الحديث مشهور عن حميد، عن أنس ، وقد خرجه البخاري - أيضا - في "التفسير" من حديث يحيى بن سعيد ، عن حميد . ورواه - أيضا - يزيد بن زريع وابن علية وابن أبي عدي وحماد بن سلمة [ ص: 112 ] وغيرهم، عن حميد، عن أنس .

                                                                                                                                                                                              وإنما ذكر البخاري رواية يحيى بن أيوب: حدثني حميد، قال: سمعت أنسا ; ليبين به أن حميدا سمعه من أنس ، فإن حميدا يروي عن أنس كثيرا . وروي عن حماد بن سلمة ، أنه قال: أكثر حديث حميد لم يسمعه من أنس ، إنما سمعه من ثابت، عنه . وروي عن شعبة ، أنه لم يسمع من أنس إلا خمسة أحاديث . وروي عنه، أنه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرين حديثا . وقد سبق القول في تسامح يحيى بن أيوب والمصريين والشاميين في لفظة: "ثنا" -: كما قاله الإسماعيلي .

                                                                                                                                                                                              وقال علي بن المديني في هذا الحديث: هو من صحيح الحديث . ولم يخرج مسلم هذا الحديث، إنما خرج من رواية سعيد بن عامر . عن جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم . وقد أعله الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد - رحمه الله - بأنه روي عن سعيد بن عامر ، عن جويرية ، عن رجل، عن نافع ، أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: فدخل في إسناده رجل مجهول، وصار منقطعا . وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن ابن جريج ، [ ص: 113 ] عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمعت جابرا يحدث عن حجة الوداع قال: لما طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له عمر : هذا مقام إبراهيم؟ قال: "نعم "، قال: أفلا نتخذه مصلى; فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهذا غريب، وهو يدل على أن هذا القول كان في حجة الوداع، وأن الآية نزلت بعد ذلك، وهو بعيد جدا، وعبد الوهاب ليس بذاك المتقن . وقد خالفه الحفاظ، فرووا في حديث حجة الوداع الطويل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى إلى المقام، وقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ثم صلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت . وروى الوليد بن مسلم ، عن مالك ، عن جعفر ، عن أبيه، عن جابر . قال: لما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر : يا رسول الله، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ؟ قال: "نعم " . قال الوليد: قلت لمالك : هكذا حدثك؟ قال: نعم . وقد خرجه النسائي بمعناه . والوليد كثير الخطأ -: قاله أبو حاتم وأبو داود وغيرهما . وذكر فتح مكة فيه غريب أو وهم، فإن هذا قطعة من حديث جابر في حجة الوداع . [ ص: 114 ] وقد روي حديث أنس ، عن عمر من وجه آخر:

                                                                                                                                                                                              خرجه أبو داود الطيالسي : ثنا حماد بن سلمة : ثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال: قال عمر : وافقت ربي في أربع - فذكر الخصال الثلاث المذكورة في حديث حميد، إلا أنه قال في الحجاب: فأنزل الله: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب قال: ونزلت هذه الآية: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزل: فتبارك الله أحسن الخالقين وقول عمر : "وافقت ربي في ثلاث "، ليس بصيغة حصر، فقد وافق في أكثر من هذه الخصال الثلاث والأربع . ومما وافق فيه القرآن قبل نزوله: النهي عن الصلاة على المنافقين . وقوله لليهود: من كان عدوا لجبريل، فنزلت الآية . وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءه ووجد عليهن: يا رسول الله، إن كنت طلقتهن، فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . قال عمر : وقل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت آية التخيير: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن

                                                                                                                                                                                              وقد خرج هذا الأخير مسلم من حديث ابن عباس ، عن عمر . وأما موافقته في النهي عن الصلاة على المنافقين، فمخرج في [ ص: 115 ] "الصحيحين " من حديث ابن عباس ، عن عمر - أيضا . وأما موافقته في قوله: من كان عدوا لجبريل فرواه: أبو جعفر الرازي، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى ، عن عمر . ورواه: داود، عن الشعبي ، عن عمر ، هما منقطعان . وقد روي موافقته في خصال أخر، وقد عد الحافظ أبو موسى المديني من ذلك اثنتي عشرة خصلة . وتخريج البخاري لهذا الحديث في هذا الباب: يدل على أنه فسر قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى بالأمر بالصلاة إلى البيت الذي بناه إبراهيم، وهو الكعبة، والأكثرون على خلاف ذلك، كما سبق ذكره .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية