الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) لما كانت العلوم الضرورية والنظرية لا تدرك بدون العقل ، أخذ في الكلام عليه ، فقال ( العقل : ما يحصل به الميز ) أي بين المعلومات ، قال في شرح التحرير : قاله صاحب روضة الفقه من أصحابنا . وهو شامل لأكثر الأقوال الآتية ، وعن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : آلة التمييز والإدراك ( وهو [ ص: 24 ] غريزة ) ، نصا . قال في شرح التحرير : قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه العقل غريزة ، وقاله الحارث المحاسبي ، فقال : العقل غريزة ليس مكتسبا ، بل خلقه الله تعالى يفارق به الإنسان البهيمة ، ويستعد به لقبول العلم ، وتدبير الصنائع الفكرية ، فكأنه نور يقذف في القلب كالعلم الضروري ، والصبا ونحوه حجاب له . قال القاضي أبو يعلى : إنه غير مكتسب ، كالضروري ، وقال الحسن بن علي البربهاري ، من أئمة أصحابنا : ليس بجوهر ولا عرض ولا اكتساب ، وإنما هو فضل من الله تعالى ، قال الشيخ تقي الدين : هذا يقتضي أنه القوة المدركة كما دل عليه كلام أحمد ، لا الإدراك ( و ) هو أيضا ( بعض العلوم الضرورية ) عند أصحابنا ، والأكثر .

قال في : شرح التحرير : وقد ذهب بعض أصحابنا والأكثر إلى أنه بعض العلوم الضرورية . يستعد بها لفهم دقيق العلوم ، وتدبير الصنائع الفكرية ، وممن قال بذلك من غير أصحابنا : القاضي أبو بكر الباقلاني ، وابن الصباغ ، وسليم الرازي . فخرجت العلوم الكسبية ; لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا ، مع انتفاء العلوم النظرية ، وإنما قالوا : بعض العلوم الضرورية . لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد للعلم بالمدركات ، لعدم الإدراك المعلق عليها : غير عاقل .

( ومحله ) أي محل العقل ( القلب ) عند أصحابنا والشافعية والأطباء .

واستدلوا لذلك بقوله تعالى ( { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } ) أي عقل . فعبر بالقلب عن العقل ، لأنه محله ، وبقوله تعالى ( { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ) وبقوله تعالى ( { لهم قلوب لا يفقهون بها } ) فجعل العقل في القلب . وقد تقدم أنه بعض العلوم الضرورية ، والعلوم الضرورية : لا تكون إلا في القلب ( و ) مع هذا ( له اتصال بالدماغ ) قاله التميمي وغيره من أصحابنا وغيرهم . قال في شرح التحرير : والمشهور عن أحمد : أنه [ ص: 25 ] في الدماغ . وقاله الطوفي والحنفية . وقيل : إن قلنا : جوهر ، وإلا في القلب .

( ويختلف ) العقل ( كالمدرك به ) أي بالعقل ، لأنا نشاهد قطعا آثار العقول في الآراء ، والحكم والحيل وغيرها متفاوتة ، وذلك يدل على تفاوت العقول في نفسها . وأجمع العقلاء على صحة قول القائل : فلان أعقل من فلان أو أكمل عقلا وذلك يدل على اختلاف ما يدرك به ولحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء { أليس شهادة إحداكن مثل شهادة نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى . قال : فذلك من نقصان عقلها } وقال ابن عقيل والأشاعرة والمعتزلة : العقل لا يختلف ، لأنه حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم ولو تفاوتت العقول ، لما كان كذلك .

وقال الماوردي من أصحاب الشافعي : إن العقل الغريزي لا يختلف ، وإن التجربي يختلف . وحمل الطوفي الخلاف على ذلك . و ( لا ) يختلف ما يدرك ( بالحواس . ولا ) يختلف أيضا ( الإحساس ) قال القاضي أبو يعلى : الإحساس وما يدرك بالحواس لا يختلف بخلاف ما يدرك بالعقل . فإنه يختلف ما يدرك به . وهو التمييز والفكر . [ فيقل في حق بعضهم ويكثر في حق بعض ] فلهذا يختلف انتهى . قال الشيخ تقي الدين : [ وهذا ] يلزم منه أن العلم الحسي ليس من العقل . قال : ولنا في المعرفة الإيمانية في القلب : هل تزيد وتنقص ؟ روايتان . فإذا قيل : إن النظري لا يختلف . فالضروري أولى .

وهذه المسألة من جنس مسألة الإيمان ، وإن الأصوب : أن القوى التي هي الإحساس وسائر العلوم والقوى تختلف انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية