الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج قد بين في الآية السابقة بعض أحكام الحج ، وفي هذه الآية الكريمة يبين ميقاته ، وما ينبغي للمؤمن في وقت حجه .

                                                          وقوله تعالى : الحج أشهر معلومات أي وقت الحج أشهر معلومات ، وإنما جعلت النسبة إلى الحج نفسه ، لا إلى وقته ، فكأن الإسناد إليه - للإشارة إلى أن هذه الأشهر لأنها ميقات تلك العبادة المقدسة ، تكتسب تقديسا منها ، وكأنها هي .

                                                          والأشهر المعلومات اتفق على أن منها شوالا وذا القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة ; واختلف في العشرين الأخيرة أهي منها أم ليست منها ؟ وعلى أنها ليست منها الأكثرون والصحاح من الروايات .

                                                          وإن هذه الأشهر سميت أشهر الحج ; لأن أركانه تستوفى فيها ، وتؤخذ الأهبة له فيها ، ويحرم به فيها ; ولكن قال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يصح الإحرام بالحج قبلها ; وذلك رأي جمع من التابعين ; ورأى الشافعي تابعا لبعض الصحابة والتابعين أن الإحرام بالحج لا يكون إلا في أشهره ، كما أن نية الصيام لا تكون إلا في رمضان ، وكما أن نية الصلاة لا تكون إلا وقت أدائها ; وإن ذلك هو ما يشير إليه قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج إذ جعلهن وعاء الفرض وظرفه .

                                                          ومعنى فرض الحج فيهن الإحرام به ; فإذا أحرم بالحج نزه نفسه ولسانه عن كل قول يؤدي إلى نزاع ; ولذا قال سبحانه : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال وقد فسر بعض العلماء الرفث بما يكون بين الرجل والمرأة ; والفسوق بالخروج عن [ ص: 615 ] محظورات الحج ، كلبس المخيط والحلق من غير رخصته ، والصيد ، وغير ذلك مما حظر الله سبحانه . والجدال هو المماراة .

                                                          وقد فسر بعض العلماء الرفث بأنه النطق بالفحش مما يكون بين الرجل والمرأة وغيره ; والفسوق بالسباب ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " . والجدال : المماراة والمنازعة .

                                                          وعندي أن مرمى القول الكريم هو النهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه ، وكل قول يؤدي إلى النزاع ، والجدال يؤدي إلى الخصام ; لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمن الروحية ليتعارفوا ، وليتلاقوا ، وليقوى اتحادهم ، ويعتزوا بعزة الله ، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام .

                                                          وما تفعلوا من خير يعلمه الله وإذا كنتم قد تنزهتم في حجكم عن كل شر فاعلموا أنكم اجتمعتم لعمل الخير ، فتنافسوا فيه ، وتبادلوا النفع ، وليتعرف الشرقي حال الغربي ، واعملوا على ما يقوي جمعكم ، ويزيل الضر عنكم ، ويدفع عنكم كيد الكائدين ; فإن الحج الذي يزكي نفوسكم لا يثمر ثمرته ، ولا ينتهي إلى غايته ، إلا إذا اعتبرتموه المؤتمر الأكبر لدولتكم ، والمجتمع الأعظم لممثلي أمتكم ; وإن الوادي المقدس هو ناديكم الذي اجتمعتم فيه ; واعلموا أن خيركم محسوب لكم وما تفعلوا من خير يعلمه الله سبحانه ، فيعرف المحسن والمسيء ، وحسب المحسن فضلا أن يعرف الله فضله ، وأن يكون عنده من الأخيار الأبرار ، وأن يكون عمله مقدورا من ربه ، مذكورا عنده ; ثم إنه يجازي الإحسان إحسانا ، وما عنده خير وأبقى .

                                                          وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب التزود هنا معنوي نفسي ، لا مادي مالي ; فالتزود : الإكثار من التقوى ، وتهذيب النفس ، وإشعار المؤمن بمودة المؤمن ، وتوثيق العلاقة به ، والتحاب على مائدة الرحمن ، وتحت سلطان الديان . والدليل على أن الزاد معنوي لا مادي قوله سبحانه من بعد معللا [ ص: 616 ] لطلبه ، مثبتا الحكمة من أمره : فإن خير الزاد التقوى ففي الكلام استعارة ، وهو تشبيه التقوى والمودة والمحبة والإخلاص الذي يملأ قلب الحاج بالزاد المادي ; لأن الأول غذاء القلوب ، كما أن هذا غذاء الأجسام .

                                                          ولقد قال بعض العلماء إن التزود مادي ، وهو نهي للحجاج الذين لا يتزودون في حجهم ويتكففون الناس ، وقد كان يفعل ذلك أهل اليمن فنهوا عنه .

                                                          ولكن المعنى الواضح من الآية هو الأول ; ولذلك أردفت الآية بالأمر بالتقوى أمرا عاما فقال سبحانه : واتقون يا أولي الألباب أي اتخذوا من عمل الخير واجتناب الشر ، والقيام بالطاعات والامتناع عن المنهيات وقاية من غضبي ، وخص ذوي الألباب بالنداء ، وهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لا يتقي الله ليس عنده لب يدرك ، ولا قلب يعي ، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة . إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار ، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية