الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها، وأئمة أهل الحديث والفقهاء، والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية، [ ص: 330 ] وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم على إثبات هذه الصفات الخبرية، وبقية الصفاتية النفاة لها، في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، كالحياة والعلم والقدرة، لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية، صفات معنوية أيضا، قائمة بالموصوف مثل هذه، وإنما يفرق بينهما، لافتراق الطريق التي بها علمت، فتلك علمت مع الخبر الصادق بالعقل، وهذه لم تعرف إلا بالخبر. وأما السلف والأئمة وأهل الحديث، وأئمة الفقهاء والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فلا يقولون: إن هذه من جنس تلك، لا يسمونها أيضا صفات خبرية; لأن من الصفات المعنوية ما لا يعلم إلا بالخبر أيضا، فليس هذا مميزا لها عندهم، ومنهم من يقول: هذه معلومة بالعقل أيضا.

وعلى القولين سواء كانت صفات عينية أو معنوية: فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا، إما أجسام كالوجه [ ص: 331 ] واليد، وإما أعراض كالعلم والقدرة، فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة كلاهما ثابت لله، على خلاف ما هو ثابت للمخلوق، وإن لم يكن في ذلك نفيا لحقيقته، ولا تمثيلا له بالمخلوق، فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات: إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق، أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا، مع كونه غير مماثل للأعراض، وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام; بل يقال: من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين، أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس من الأحياء العالمين القادرين، بل لا خلاف بين أهل الإثبات أنه موجود، مع كونه ليس مثل سائر الموجودات; بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم. ويقتضي بأنه ليس مماثلا للموجود المحدث الممكن، وإلا للزم أن يجوز على الواجب، ما يجوز على المحدث، فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودا واجبا، وأنه ليس مثل الموجود الممكن، فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة، هو من جنس ما يثبتونه في الذات، وذلك أمر بين بأدنى تأمل، معلوم بالعقل الصريح; فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره، وما هو ثابت معلوم بصريح العقل. وإن قال: بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك، قيل له: والحنابلة أيضا بينهم نزاع؛ فمنهم من ينفي هذه الصفات، ويوجب تأويل النصوص، ومنهم من يجوز التأويل، [ ص: 332 ] ولا يوجبه، ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي، ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات. وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم.

وأما قوله: «إنهم يصرحون بأنا نثبت هذا المعنى لله على خلاف ما هو ثابت للخلق» فلا ريب أنهم يثبتونه كذلك، وإلا لزم التمثيل والتشبيه، المنفي بالعقل والشرع، لكنهم لا يقولون نثبت معنى الجوارح والأعضاء، ولكن نثبت المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع.

قوله: «فأثبتوا لله وجها بخلاف وجوه الخلق، ويدا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الوهم والخيال، فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال، فأي استبعاد في القول بأنه تعالى [ ص: 333 ] موجود، وليس بداخل العالم ولا خارج العالم، وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الموجود».

التالي السابق


الخدمات العلمية