الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل قوله تعالى : والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة ؛ إذ لم يحتلم قبل ذلك ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم . ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها . وأما حديث ابن عمر : أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجز وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ، فإنه مضطرب ؛ لأن الخندق كان في سنة خمس ، وأحد في سنة ثلاث ، فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ؛ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويجاز غير البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح ، كما أجاز رافع بن خديج ورد سمرة بن جندب ، فلما قيل له : إنه يصرعه أمرهما فتصارعا ، فصرعه سمرة فأجازه ولم يسأله عن سنه . وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ابن عمر عن مبلغ سنه في الأول ولا في الثاني وإنما اعتبر في قوته وضعفه ؛ فاعتبار السن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه في وقت ورده في وقت ساقط .

وقد اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ ، واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة ( لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها ، وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي في الغلام والجارية خمس عشرة سنة ) وذهبوا فيها إلى حديث ابن عمر ، وقد بينا أن لا دلالة فيه على أنها حد البلوغ ؛ ويدل عليه أنه لم يسأله عن الاحتلام ولا عن السن .

ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أيضا أن تكون الخمس عشرة بلوغا على الحد الذي بينا ، صار طريق إثبات حد البلوغ بعد ذلك الاجتهاد ؛ لأنه حد بين الصغر والكبر الذين قد عرفنا طريقهما وهو واسطة بينهما ، فكان طريقه الاجتهاد .

وليس يتوجه على القائل بما وصفنا سؤال ، كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها .

فإن قيل : فلا بد من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضرب من الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير .

قيل له : قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان طريقه العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه ، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة ، وقد بينا [ ص: 194 ] أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة كالنقصان عنه فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي ثلاث سنين ؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل المعتاد من حيض النساء ستا أو سبعا بقوله لحمنة بنت جحش : تحيضين في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر اقتضى ذلك أن يكون العادة ستا ونصفا ؛ لأنه جعل السابع مشكوكا فيه بقوله : ( ستا أو سبعا ) .

ثم قد ثبت عندنا أن النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف ؛ لأن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة ، فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه ، وجب أن يكون كذلك اعتبار الزيادة على المعتاد فيما وصفنا .

وقد حكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة للغلام ؛ وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة .

واختلف في الإثبات هل يكون بلوغا ، فلم يجعله أصحابنا بلوغا ، والشافعي يجعله بلوغا ، وظاهر قوله : والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أن يكون الإثبات بلوغا إذا لم يحتلم ، كما نفى كون خمس عشرة بلوغا . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وعن الصبي حتى يحتلم وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي . واحتج من جعله بلوغا بحديث عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من بني قريظة واستحيا من لم ينبت ، قال : فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني . وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله ؛ إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف إلا من هذا الخبر ، لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام ؛ ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ ، ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه المواسي ، وفي بعضها من اخضر إزاره ؛ ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم في بلوغه ، ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير ؛ فجعل الإثبات وجري المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر .

وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن أنبت . وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغا ؛ لأن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ . وقد روي عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الإنسان لم يأخذ به أحد من الفقهاء . وروى محمد بن سيرين عن أنس قال : ( أتى أبو بكر بغلام قد سرق ، فأمره فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ) .

وروى قتادة عن خلاس عن علي قال : ( إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه ، وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار [ ص: 195 ] فهو ضامن ) .

وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة : ( أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه ، ثم حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق ، فكتب إليه أن اشبره فشبره فنقص أنملة فسمي نميلة ) .

قال أبو بكر : وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل السلف ، ؛ إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه ؛ لأنه قد يكون قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولا يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم ؛ وقوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن من أهل التكليف ، على جهة التعليم ؛ كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات .

وقد روي عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بلغ الغلام سبع سنين فمروه بالصلاة ، وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع . وعن ابن مسعود قال : ( حافظوا على أبنائكم في الصلاة ) .

وروى نافع عن ابن عمر قال : ( يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله ) .

وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : ( كان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، فيقال له : يصلون الصلاة لغير وقتها فيقول : هذا خير من أن يتناهوا عنها ) . وروى هشام بن عروة : ( أنه كان يأمر بنيه بالصلاة إذا عقلوها وبالصوم إذا أطاقوه ) . وروى أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال : ( إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم ) .

قال أبو بكر : إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه ، وكذلك يجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات ؛ لأنه لو لم يؤمر بذلك في الصغر وخلي وسائر شهواته وما يؤثره ويختاره يصعب عليه بعد البلوغ الإقلاع عنه ؛ وقال الله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا روي في التفسير : أدبوهم وعلموهم . وكما ينهى عن اعتقاد الكفر والشرك وإظهاره وإن لم يكن مكلفا ، كذلك حكم الشرائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية