الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          - 1083 - مسألة : وأما حكم إرسال الجارح ، فلا يخلو ذلك الجارح من أن يكون [ ص: 162 ] معلما أو غير معلم فالمعلم هو الذي لا ينطلق حتى يطلقه صاحبه ، فإذا أطلقه انطلق ، وإذا أخذ وقتل ولم يأكل من ذلك الصيد شيئا ، فإذا تعلم هذا العمل ، فبأول مدة يقتل ولا يأكل منه شيئا فهو معلم حلال أكل ما قتل مما أطلقه عليه صاحبه وذكر اسم الله تعالى عند إطلاقه . وسواء قتله بجرح أو برض ، أو بصدم ، أو بخنق كل ذلك حلال . فإن قتله وأكل من لحمه شيئا فذلك الصيد حرام لا يحل أكل شيء منه . وسواء في كل ما ذكرنا الكلب ، وغيره من سباع دواب الأربع ، والبازي وغيره من سباع الطير ولا فرق . فأما الفرق بين المعلم وغير المعلم فهو قول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } . وما سنذكره بعد هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله فلم يبح لنا عز وجل إلا ما أمسك علينا جوارحنا المعلمة . وأما قولنا في التعليم : فإن الله تعالى لم يبح لنا كما ذكرنا إلا ما أمسك علينا جوارحنا المعلمة ، وبالضرورة ندري أن سباع الطير ، وذوات الأربع تعلم التصيد بطبعها لأنفسها ومعاشها فلا بد من شيء زائد تعلمه لم تكن تعلمه إلا أن تعلمه لا بد من هذا ضرورة ، وإلا فكل جارح فهو معلم - وهذا خلاف القرآن ، والسنن ، ولا يقوله أحد ، فإذ لا بد من هذا فليس ههنا شيء يمكن أن تعلمه إلا ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف المتقدمون في هذا فقال أبو حنيفة ، والشافعي : إذا أمسك ولم يأكل وفعل ذلك مرة بعد مرة فهو معلم يؤكل ما قتل بعد تلك المرار ، ولم يحدا في ذلك حدا . وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : إذا أمسك ولم يأكل ثلاث مرات فهو معلم يؤكل ما قتل في الرابعة ولا يؤكل ما قتل في تلك الثلاث مرات . وقال أبو سليمان : إذا أمسك فلم يأكل مرة فهو معلم ويؤكل ما قتل في الثانية ولا يؤكل ما قتل في الأولى . وقال أبو ثور : إذا أمسك ولم يأكل فأول مرة يفعل ذلك يؤكل ما قتل . قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ، والشافعي فظاهر الخطأ لأنهما لم يبينا متى [ ص: 163 ] يحل أكل ما قتل ومتى لا يحل ، وما كان هكذا فالسكوت عنه أولى لأنه إشكال محض ، لا بيان فيه ولا دليل عليه ، ودين الله تعالى بين لائح قد فصل لنا ما حرم علينا مما لم يحرم - ولله تعالى الحمد - فسقط هذا القول بيقين . وأما قول أبي يوسف ، ومحمد فأظهر فسادا من القول الأول لأنهما حدا حدا لم يأت به نص من قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا معقول ولا فرق بين من حد بثلاث مرات وبين من حد بأربع ، أو خمس ، أو بمرتين ، أو بما زاد - وكل ذلك ، شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى فبطل هذا القول بيقين .

                                                                                                                                                                                          وأما قول أبي سليمان فإنه احتج بأننا لم نعلم أنه معلم إلا بتلك الفعلة الأولى فبها علمنا أنه قد تعلم فهو في الثانية معلم يؤكل ما قتل . قال علي : فقلنا : صدقتم ، إنه بتلك الفعلة الأولى علمنا أنه معلم ، ولا شك أنه قبلها لم يكن معلما ، فلما صح أنه معلم بتلك الفعلة صح يقينا أنه صاد تلك المرة وهو معلم ، ولو لم يكن معلما لما أتى بشروط التعليم ، فإذ صادها وهو معلم فحلال أكل ما صاد فيها . وهذا قول أبي ثور : وهذا القول الصحيح بلا شك . وأما مالك : فلم يراع أكل الجارح وهو خطأ لما نذكر إن شاء الله تعالى . وأما جواز أكل ما قتل كيفما قتل فإن قوما قالوا : لا يؤكل إلا ما جرح لا ما قتل بخنق ، أو صدم ، أو رض ، أو غم - واحتجوا بقول الله تعالى : { من الجوارح } . قال علي : وهذا جهل منهم ، لأن الجارح الكاسب قال الله تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } وحتى لو كان مراد الله تعالى بقوله : ( الجوارح ) من الجراح لما كان لهم فيه حجة ، لأن الله تعالى سماهن جوارح ، وهن جوارح ، وقواتل ، بلا شك ، ولم يقل تعالى : ( لا تأكلوا إلا مما ولدن فيه جراحة ) بل قال تعالى : {فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يذكر تعالى بجراحة ، ولا بغير جراحة ، { وما كان ربك نسيا } . وقال بعضهم : قسنا الجارح على المعراض إن خزق أكل وإن رض لم يؤكل . [ ص: 164 ] قال أبو محمد : وهذا باطل لأنه قياس .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح القياس لكان هذا باطلا لأنه لا قياس عندهم مع نص والنص جاء في المعراض بما ذكروا ، وفي الجارح بغير ذلك كما ذكرنا من قول الله تعالى . وكما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - نا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ، قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها } . ومن طريق البخاري نا أبو نعيم هو الفضل بن دكين - نا زكريا هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن { عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ الكلب ؟ فقال : كل ما أمسك عليك فإن أخذ الكلب ذكاة } . ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي عن { عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب ؟ فقال : ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله فإن ذكاته أخذه } فأمره عليه السلام بأكل ما قتل الكلب المعلم وأخبر أنه ذكاة ولم يشترط عليه السلام بجراحة من غيرها ، فاشتراط ذلك باطل لا يجوز . وقولنا هو قول أبي الحسن بن المغلس ، وغيره .

                                                                                                                                                                                          وأما تحريم أكل الصيد إذا أكل منه الجارح فلقول الله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } فلم يبح لنا الله تعالى ما أمسكن فقط ولا ما أمسكن على أنفسهن بل ما أمسكن علينا فقط ، وبالمشاهدة ندري أنه إذا أكل منه فعلى نفسه أمسك ولها صاد فهو حرام . وأيضا قول الله تعالى : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } والكلب سبع بلا خلاف فتحريم ما أكل منه حرام بنص القرآن فلا يحل إلا حيث أحله النص فقط . ومن طريق البخاري نا آدم نا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : { إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فأكل فلا [ ص: 165 ] تأكل فإنما أمسك على نفسه } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله بن المبارك عن عاصم هو الأحول - عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : { إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه فإن أدركته لم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه ، فإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسكه عليك وإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه } وذكر باقي الخبر - وبهذا يقول جماعة من السلف - : صح من طريق معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا أكل الكلب المعلم فلا تأكل منه فإنما أمسك على نفسه .

                                                                                                                                                                                          وعن سعيد بن منصور نا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه . نا حمام نا الباجي أبو محمد نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا علي بن الحسن بن شقيق نا عبد الله بن المبارك نا نصر بن إدريس عن عمه قال : سألت أبا هريرة عن كلب أرسله ؟ فقال لي وذمه فإذا أرسلته فسم الله تعالى فإن أكل فلا تأكل - ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال : إذا أكل فليس بمعلم . وهو قول أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، والشعبي ، والنخعي ، وعكرمة ، وعطاء صح عنه من طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن عطاء قال في الصقر والبازي يأكل ؟ قال : لا تأكل ، ومثله عن عكرمة - وهو قول سعيد بن جبير ، وسويد بن غفلة ، وحماد بن أبي سليمان . ومنع الشعبي من أكل الصيد إذا شرب الجارح من دمه . وهو قول سفيان الثوري ،

                                                                                                                                                                                          وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم . وقال مالك : يؤكل وإن أكل منه ، واحتج له من قلده بما روينا من طريق أبي داود أنا محمد بن عيسى نا هشيم نا داود بن عمرو عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني [ ص: 166 ] عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه } . ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة : إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك ، وإن أكل منه كل ما ردت عليك قوسك ، وإن تغيب عنك ما لم يضل } . ومن طريق عبد الملك بن حبيب نا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة عن الشعبي { عن عدي بن حاتم قلت : يا رسول الله إنا بأرض صيد ولنا كلاب نرسلها فتأخذ الصيد ؟ فقال عليه السلام : كل مما أمسكن عليك إلا أن يخالطها كلب من غيرها ؟ قلت : يا رسول الله وإن قتلت ، قال : وإن قتلت ، قلت : وإن أكلت ، قال : وإن أكلت } . ومن طريق سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل ، قلت : وإن أكل ؟ قال : نعم } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن جرير الطبري حدثني الحارث نا محمد بن سعيد نا محمد بن عمر الواقدي نا محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبي عمير الطائي عن أبي النعمان عن أبيه - وهو من سعد هذيم - قال : قلت : يا رسول الله إنا أصحاب قنص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل ، قلنا وإن أكل نأكل ؟ قال : نعم } . واعترضوا على القول بأن الكلب له نية في الإمساك على مرسله أو على نفسه بالإنكار لذلك - وصح عن ابن عمر : كل مما أكل منه كلبك المعلم وإن أكل . وروي أيضا عن سعد بن أبي وقاص كل وإن لم يبق إلا بضعة . ومن طريق حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن أبي هريرة إذا أرسلت كلبك فأكل ثلثيه فكل . ومن طريق شعبة ، وحماد بن سلمة قال شعبة : عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، وقال حماد : عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني ثم اتفق بكر ، وسعيد كلاهما عن [ ص: 167 ] سلمان الفارسي : أن يؤكل من صيد الكلب وإن أكل ثلثيه . وروي عن علي من طريق من لا يعرف من هو ولا سمي أيضا وهو قول الزهري ، وربيعة - واختلف فيه عن الحسن . وعطاء . قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به قد تقصيناه لهم وكله لا حجة لهم فيه . أما الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ساقطة لا تصح - : أما حديث أبي ثعلبة فمن طريق داود بن عمر . وهو ضعيف ، ضعفه أحمد بن حنبل وقد ذكر بالكذب ، فإن لجوا وقالوا : بل هو ثقة ؟ قلنا : لا عليكم إن وثقتموه ههنا فخذوا روايته التي رويناها من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه نا هشيم أنا داود بن عمر عن بسر بن عبيد الله إدريس الخولاني عن عوف بن مالك الأشجعي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر وليالهن ويوم وليلة للمقيم } فهذه تلك الطريق بعينها . ومن الكبائر في دين الله تعالى الاحتجاج بها إذا اشتهيتم ووافقت أهواءكم ورأي من قلدتموه دينكم ، وإطراحها إذا خالفت أهواءكم ورأي من قلدتموه هذه الصفة التي ذكرها الله تعالى عن قوم يقولون { إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وفي هذا كفاية لمن عقل . وأما نحن فما نحتج به أصلا ، ولا نقبله حجة . وأما حديث عمرو بن شعيب فصحيفة ، فإن أبوا إلا تصحيحها ; قلنا : لا عليكم خذوا بروايته عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون ابن لبون ذكر ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة } { وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، وعمر : حرقوا متاع الغال وضربوه } ، وغير هذا كثير مما خالفوه ولم يردوه إلا بتضعيف روايته عن أبيه عن جده فهي صحيحة ، وحجة في دين الله تعالى ومنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتهوا ووافقت أهواءهم ، ورأي من قلدوه ، وهي مردودة مطرحة غير مصدقة إذا خالفت أهواءهم ، ورأي من قلدوه ، ألا ذلك هو الضلال المبين ، وما ندري كيف تنبسط نفس مسلم لمثل هذا ؟ [ ص: 168 ] وأما الخبر : عن عدي بن حاتم - : فأحد : طريقيه من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي . وقد روى الكذب المحض عن الثقات عن أسد بن موسى وهو منكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          والأخرى : من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين عن مري بن قطري وهو مجهول . وكم رواية لأسد ، وسماك ، اطرحوها إذا خالفت أهواءهم ؟ وأما حديث أبي النعمان : فمصيبة ، فيه الواقدي مذكور بالكذب عن ابن أخي الزهري - وهو ضعيف - عن أبي عمير الطائي ولا يدرى من هو عن أبي النعمان وهو مجهول - فسقط كل ما تعلقوا به . وأما عن الصحابة : فهو عن سعد لا يصح ، لأنه من طريق حميد بن مالك بن الأختم وليس بالمشهور ، وعن علي كذلك ، وعن سلمان كذلك ، لأننا لا نعلم لسعيد بن المسيب ، ولا لبكر بن عبد الله سماعا من سلمان ولا كانا ممن يعقل ; إذ مات سلمان رضي الله عنه أيام عمر بل إنه صحيح عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وقد اختلف عنهما في ذلك كما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن ابن عمر ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : ما يصاد به من البيزان وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فكل وما لا فلا تطعم . وأما الكلب المعلم فكل مما أمسك عليك وإن أكل منه ، فإن كان ابن عمر حجة في بعض قوله ، فهو حجة في سائره ، وإلا فهو تلاعب بالدين . وأما إنكارهم مراعاة نيات الكلاب فقولهم هذا هو المنكر نفسه حقا ، لأنه اعتراض على القرآن ، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسب المحروم هذا - ونعوذ بالله منه . وروي عن ربيعة أنه قال : لو كان أكل الجارح يحرم منه ما بقي لم يحل لأحد أن يبادر إلى الضاري حتى يدري أيأكل منه أم لا ؟ قال أبو محمد : وهذا [ قول ] في غاية السقوط لأن بأول دقيقة يمكن الجارح أن [ ص: 169 ] يأكل مما قتل فإن لم يفعل علمنا أنه على مرسله أمسك لا على نفسه فكيف ولم نكلف قط هذا ؟ إنما أمر عليه السلام أن لا نأكل إذا أكل ، وأف أو تف لكل عقل يعترض على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم . فسقط هذا القول وبطل جملة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما جواز أكل كل ما قتله المعلم من غير الكلاب فقد اختلف في هذا فروينا عن ابن عمر ما رويناه عنه آنفا من أنه لا يحل أكل صيد قتله شيء من الجوارح إلا المعلم من الكلاب وحده - وصح أيضا عن مجاهد . وصح عن ابن عباس : كل ما علم فصاد فأكل ما قتل جائز .

                                                                                                                                                                                          واحتج من منع ذلك بأن الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاءت في الكلب فقط ، قالوا : وقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } إشارة إلى الكلاب قالوا : وسباع الطير ، وسباع البر ، لا يمكن فيها تعليم أصلا حاشا الكلاب فقط . قال أبو محمد : أما الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكما قالوا إلا أن الآية أعم من تلك الأحاديث لقول الله تعالى : { من الجوارح } فعم كل جارح ، وهذا لا يجوز تركه لخبر فيه بعض ما في الآية . وأما قوله تعالى : { مكلبين } فليس فيه دليل على أنه لا يؤكل ما قتله غير الكلب من الصيد أصلا ، لا بنص ، ولا بدليل ، بل فيه بيان بأن صيد غير الكلاب جائز بقوله تعالى : { مكلبين } لأنها لا تحتمل هذه اللفظة ألبتة إلا أن يجعلها في حال الكلاب - فصح أنها غير الكلاب أيضا . وأما قولهم : إن ما عدا الكلاب لا يقبل التعليم المذكور أصلا ، فالواجب أن ينظر في ذلك ، فإن وجد منها نوع يقبل التعليم فلا ينطلق حتى يطلقه صاحبه ، وإذا صاد لم يأكل فهو معلم يؤكل ما قتل وإن لم يوجد ذلك أصلا فلا يجوز أكل شيء مما قتلت إلا ما أدركت ذكاته وهو حي بعد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وقد قال قوم : يؤكل صيد البازي وإن أكل - وهو قول أبي حنيفة . قال أبو محمد : وهذا باطل لأن الله تعالى لم يبح لنا أن نأكل إلا مما أمسكن علينا ، [ ص: 170 ] لا مما أمسكن جملة ، ولا مما أمسكن على أنفسهن وقولنا هو قول الشافعي ، وهو أيضا قول عطاء ، وعكرمة كما ذكرنا قبل وعن ابن عباس ما أكلت الجوارح فلا تأكل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية