الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل ونازعهم الجمهور في ذلك ، وقالوا : ليس معنى العود إعادة اللفظ الأول ؛ لأن ذلك لو كان هو العود ، لقال : ثم يعيدون ما قالوا ؛ لأنه يقال أعاد كلامه بعينه ، وأما عاد ، فإنما هو في الأفعال ، كما يقال : عاد في فعله ، وفي هبته ، فهذا استعماله ب " في " . ويقال عاد إلى عمله ، وإلى ولايته ، وإلى حاله ، وإلى إحسانه وإساءته ، ونحو ذلك ، وعاد له أيضا .

وأما القول : فإنما يقال : أعاده كما ( قال ضماد بن ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم أعد علي كلماتك ) وكما ( قال أبو سعيد " أعدها علي يا رسول الله ) وهذا ليس بلازم [ ص: 300 ] فإنه يقال : أعاد مقالته ، وعاد لمقالته ، وفي الحديث : ( فعاد لمقالته ) بمعنى أعادها ، سواء ، وأفسد من هذا رد من رد عليهم بأن إعادة القول محال كإعادة أمس .

قال : لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانين وهذا في غاية الفساد ، فإن إعادة القول من جنس إعادة الفعل ، وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه ، والعجب من متعصب يقول : لا يعتد بخلاف الظاهرية ، ويبحث معهم بمثل هذه البحوث ، ويرد عليهم بمثل هذا الرد ، وكذلك رد من رد عليهم بمثل العائد في هبته ، فإنه ليس نظير الآية ، وإنما نظيرها ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ) ومع هذا فهذه الآية تبين المراد من آية الظهار ، فإن عودهم لما نهوا عنه هو رجوعهم إلى نفس المنهي عنه ، وهو النجوى ، وليس المراد به إعادة تلك النجوى بعينها ، بل رجوعهم إلى المنهي عنه ، وكذلك قوله تعالى في الظهار ( يعودون لما قالوا ) أي لقولهم . فهو مصدر بمعنى المفعول ، وهو تحريم الزوجة بتشبيهها بالمحرمة ، فالعود إلى المحرم هو العود إليه ، وهو فعله ، فهذا مأخذ من قال إنه الوطء .

ونكتة المسألة أن القول في معنى المقول ، والمقول هو التحريم والعود له هو العود إليه ، وهو استباحته عائدا إليه بعد تحريمه ، وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها ، وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف ، كما قال قتادة وطاووس والحسن والزهري ومالك وغيرهم ، ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من بعدهم ، وهاهنا أمر خفي على من جعله إعادة اللفظ ، وهو أن العود إلى الفعل يستلزم مفارقة الحال التي هو عليها الآن ، وعوده إلى الحال التي كان عليها أولا ، كما قال تعالى : ( وإن عدتم عدنا ) [ الإسراء : 8 ] ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان وعودهم إلى الإساءة وكقول الشاعر


وإن عاد للإحسان فالعود أحمد



والحال التي هو عليها الآن التحريم بالظهار والتي كان عليها إباحة الوطء [ ص: 301 ] بالنكاح الموجب للحل ، فعود المظاهر عود إلى حل كان عليه قبل الظهار ، وذلك هو الموجب للكفارة فتأمله ، فالعود يقتضي أمرا يعود إليه بعد مفارقته ، وظهر سر الفرق بين العود في الهبة وبين العود لما قال المظاهر ، فإن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمن عوده فيه إدخاله في ملكه وتصرفه فيه كما كان أولا بخلاف المظاهر فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية ، وبالعود قد طلب الرجوع إلى الحال التي كان عليها معها قبل التحريم ، فكان الأليق أن يقال عاد لكذا يعني : عاد إليه .

وفي الهبة عاد إليها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أوس بن الصامت ، وسلمة بن صخر ، بكفارة الظهار ، ولم يتلفظا به مرتين ، فإنهما لم يخبرا بذلك عن أنفسهما ، ولا أخبر به أزواجهما عنهما ، ولا أحد من الصحابة ، ولا سألهما النبي صلى الله عليه وسلم ، هل قلتما ذلك مرة أو مرتين ؟ ومثل هذا لو كان شرطا لما أهمل بيانه .

وسر المسألة أن العود يتضمن أمرين : أمرا يعود إليه ، وأمرا يعود عنه ، ولا بد منهما ، فالذي يعود عنه يتضمن نقضه وإبطاله ، والذي يعود إليه يتضمن إيثاره وإرادته ، فعود المظاهر يقتضي نقض الظهار وإبطاله ، وإيثار ضده وإرادته ، وهذا عين فهم السلف من الآية ، فبعضهم يقول : إن العود هو الإصابة ، وبعضهم يقول : الوطء ، وبعضهم يقول : اللمس ، وبعضهم يقول : العزم .

وأما قولكم : إنه إنما أوجب الكفارة في الظهار المعاد إن أردتم به المعاد لفظه ، فدعوى بحسب ما فهمتموه ، وإن أردتم به الظهار المعاد فيه لما قال المظاهر ، لم يستلزم ذلك إعادة اللفظ الأول .

وأما حديث عائشة رضي الله عنها في ظهار أوس بن الصامت ، فما أصحه ، وما أبعد دلالته على مذهبكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية