الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6673 [ ص: 334 ] 11 - باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة ؟

                                                                                                                                                                                                                              7084 - حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر ، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي ، أنه سمع أبا إدريس الخولاني ، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول : كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني فقلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : "نعم " . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : "نعم ، وفيه دخن " . قلت : وما دخنه ؟ قال : " قوم يهدون بغير هدي ، تعرف منهم وتنكر" . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : "نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها" . قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا . قال : "هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا " . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : "فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" . [انظر : 3606 - مسلم : 1847 - فتح: 13 \ 35 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث حذيفة - رضي الله عنه - : كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر . . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              كما سلف في باب علامات النبوة .

                                                                                                                                                                                                                              وهو علم من أعلام نبوته ، وذلك أنه - عليه السلام - أخبر حذيفة بأمور مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحي إليه بذلك من أنبيائه الذين هم صفوة خلقه ، وفيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوبلزوم جماعة المسلمين ، وترك القيام على أئمة الحق ، ألا ترى أنه - عليه السلام - وصف (أئمة ) أزمان الشر فقال : "دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 335 ] فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته ؛ لأنهم لا يكونون دعاة على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال ، ولم يقل : فيهم من تعرف منهم وتنكر ، كما قال في الأولين ، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في معنى أمره - عليه السلام - بلزوم الجماعة ، ونهيه عن الفرقة ، وصفة الجماعة التي أمر بلزومها -كما حكاه الطبري - فقال بعضهم : هو أمر إيجاب ، والجماعة هي السواد الأعظم ، وقالوا : كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم ، فهو الحق الواجب ، والفرض الثابت الذي لا يجوز لأحد من المسلمين خلافه ، وسواء خالفهم في حكم من الأحكام ، أو في إمامهم القيم بأمورهم وسلطانهم فهو مخالف للحق ؛ ذكر من ذلك : روى ابن سيرين قال : لما قتل عثمان - رضي الله عنه - أتيت أبا مسعود الأنصاري ، فسألته عن الفتنة فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة ، والجماعة حبل الله ، وإن الذي تكرهون من الجماعة خير من الذي تحبون من الفرقة . واحتجوا برواية ابن ماجه من حديث أنس مرفوعا : "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة " . ومن حديث راشد بن سعد ، عن عوف بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 336 ] مالك
                                                                                                                                                                                                                              - رضي الله عنه - مرفوعا : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فرقة واحدة في الجنة وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، واحدة وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار " . قيل : من هم ؟ قال : "الجماعة " .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو زرعة في "تاريخه " : حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك : "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم ضررا قوم (يقيسون ) " . الحديث مردود قال : وهذا حديث صفوان ، وأنكره يحيى بن معين ، وقال ابن عدي : موضوع . وذكره الحاكم في "مستدركه " من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا : "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة . . " الحديث ، ثم قال : هذا حديث (كبير ) في الأصول ، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص ، وعوف بن مالك ، وعبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة واتفقا جميعا على الاحتجاج بالفضل بن موسى رواية عن محمد بن عمرو . قلت : وتابعه النضر بن شميل أخرجه الآجري في "الشريعة " ثم رواه من حديث ابن عمرو وأنس وعلي وسعد بن أبي وقاص ومعاوية بن أبي سفيان ، وأخرجه اللكائي في "سننه " من حديث

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 337 ] أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعا ، وروى معتمر بن سليمان (المري ) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر (مرفوعا : "لا تجتمع ) أمتي على ضلالة أبدا ، ويد الله على الجماعة هكذا فاتبعوا السواد الأعظم ؛ فإنه من شذ شذ في النار " .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : الجماعة التي أمر الشارع بلزومها هي جماعة أئمة العلماء ، وذلك أن الله سبحانه جعلهم حجة على خلقه ، وإليهم تفزع العامة في دينها وهم تبع لها ، وهم المعنيون بقوله : "إن الله لن يجمع أمر أمتي على ضلالة " .

                                                                                                                                                                                                                              ذكر من قال (ذلك ) : روى المسيب بن رافع قال : كانوا إذا جاءهم شيء ليس في كتاب ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سموه صوافي الأمراء ، فجمعوا له أهل العلم ، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق . وسئل ابن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم ، فقال : أبو بكر وعمر . فلم يزل (ينزل ) حتى انتهى إلى محمد بن ثابت ابن واقد . قلت : هؤلاء قد ماتوا ، فمن الأحياء ؟ قال أبو حمزة : (السكري ) .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 338 ] وقال آخرون : الجماعة التي أمر الشارع بلزومها هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين بعد مضيه حتى أقاموا عماده وأرسوا أوتاده وردوه -وقد كاد المنافقون أن ينتزعوا أواخيه ويقلبوه من أواسيه إلى (نصاه ) - وسلكوا في الدعاء منهاجه ، فأولئك الذين ضمن الله لنبيه أن لا يجمعهم على ضلالة ، ولو كان معناه لا يجمع الله في زمن من الأزمان من يوم بعثه إلى قيام الساعة على ضلالة بطل معنى قوله : "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " ، وشبهه من الأخبار المروية عنه - عليه السلام - : أن من الأزمان أزمانا تجتمع فيها أمته على ضلالة وكفر .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : إنها جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملل اتباعها ، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا مجتمعين ، ووجب تعرف وجه الصواب فيما اختلفوا فيه ، والصواب في ذلك كما قال الطبري : إنه أمر منه بلزوم إمام جماعة المسلمين ، والنهي عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه ، فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته ونقض عهده بعد وجوبه ، وقد قال - عليه السلام - : "من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 339 ] حديث أبي بكرة حجة في ذلك ؛ لأنه - عليه السلام - أمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هي السواد الأعظم مع الإمام الجامع لهم ، فإذا لم يكن لهم إمام ، وافترق الناس أحزابا فواجب اعتزال تلك الفرق كلها ، على ما أمر به الشارع أبا ذر ، ولو بأن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت ، فذلك خير له من الدخول بين طائفة لا إمام لها خشية ما يئول من عاقبة ذلك من فساد الأحوال باختلاف الأهواء وتشتت الآراء .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              ذكر صاحب "البديع في تفضيل مملكة الإسلام " ، وهو الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر النيسابوري عن طائفة من المرجئة والكرامية : أن كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعا إلا الزنادقة ، واحتجوا بحديث : "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في الجنة وواحدة في النار " . والمشهور عكسه وهو : اثنان وسبعون في النار . إلا أن الثاني أصح إسنادا فإن صح الأول فالهالك هم الباطنية ، وإن صح الثاني فالناجية هم السواد الأعظم ، وهم أتباع المذاهب الأربعة وهم : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحاب الحديث . وفي بعض الروايات : "وتفترق المجوس على سبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقية في النار" وهذا يؤيد قول من قال : إن للمجوس كتابا وهم جماعة من الصحابة . وقال الجوزقاني في "موضوعاته " في الحديث الأول : ليس له أصل . وقال في حديث أنس : "كلهم في النار إلا فرقة واحدة " ، [ ص: 340 ] وقال : هو حديث حسن غريب مشهور ، رواته كلهم ثقات أثبات ، وقد رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سعد بن أبي وقاص وعلي وأبو الدرداء وعوف بن مالك وابن عمر وجابر وأبو هريرة ( ومعاوية ) وأبو أمامة ، وواثلة ، وعمرو كلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا فيه : واحدة في الجنة وهي الجماعة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام أبو محمد الحسن بن أحمد بن إسحاق السري في كتابه "افتراق الأمة " : أهل السنة والجماعة فرقة ، والخوارج خمس عشرة فرقة ، والشيعة ثلاث وثلاثون ، والمعتزلة ستة ، والمرجئة اثنا عشر ، والمشبهة ثلاثة ، والجهمية فرقة واحدة ، والنجارية واحدة ، (والضرارية واحدة والكلابية واحدة ) ، وأصول الفرق عشرة : أهل السنة ، والخوارج ، والشيعة ، الجهمية ، والضرارية ، والمرجئة ، والنجارية ، والكلابية ، والمعتزلة ، والمشبهة .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أبو القاسم الفوراني في كتابه "فرق الفرق " : إن غير الإسلاميين الدهرية والهيولى أصحاب العناصر الثنوية ( والدناصية ) والمانوية والطبائعية والفلكية والقرامطة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              (الدخن ) سلف بيانه وكلام أهل اللغة فيه في باب : علامات النبوة ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 341 ] واقتصر ابن التين هنا على مقالة صاحب "الصحاح " التي أسلفناها هناك ، فقال : هو السكون لعلة لا للصلح .

                                                                                                                                                                                                                              يقال : هدنة على دخن . أي : سكون لذلك ، وقال الداودي : الدخن يكون من الأمراء ، ولا يزال حال الناس ما صلحت لهم هدايتهم وهم العلماء وأئمتهم وهم الأمراء . وقال عثمان : الذي يزع الإمام الناس أكثر مما يزعهم (القرآن ) . أي : يكفهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("يعض " ) . هو بفتح العين ، أصله عضض . بكسر الضاد . ومنه قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه [الفرقان : 27 ] ، وقال الجوهري عن أبي عبيدة : عضضت بالفتح في الرباب .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية