الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 334 ] الباب الثاني في أحكام الوقف الصحيح

                                                                                                                                                                        إذا صح الوقف ، ترتب عليه أحكام ، منها : ما ينشأ من اللفظ المستعمل في الوقف ويختلف باختلاف الألفاظ .

                                                                                                                                                                        ومنها : ما يقتضيه المعنى ، فلا يختلف باختلاف اللفظ ، ويجمع الباب طرفان .

                                                                                                                                                                        [ الطرف ] الأول : في الأحكام اللفظية ، والأصل فيه أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف ، وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الأولى : قال : وقفت على أولادي ، وأولاد أولادي ، فلا ترتيب ، بل يسوى بين الجميع ، ولو زاد فقال : ما تناسلوا ، أو بطنا بعد بطن ، فكذلك ، ويحمل على التعميم على الصحيح . وقال الزيادي : قوله : بطنا بعد بطن ، يقتضي الترتيب ، ولو قال : على أولادي ، ثم على أولاد أولادي ، ثم على أولاد أولاد أولادي ما تناسلوا ، أو بطنا بعد بطن ، فهو للترتيب ، ولا يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من الأول واحد ، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد ، كذا أطلقه الجمهور . والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الأول ، أن يجيء في نصيبه الخلاف السابق فيما لو وقف على شخصين ، أو جماعة ، ثم على المساكين فمات واحد ، فإلى من يصرف نصيبه ؟ ولم أر تعرضا إليه إلا لأبي الفرج السرخسي ، فإنه سوى بين الصورتين ، وحكى فيهما وجهين ، أحدهما : أن نصيب الميت لصاحبه ، والثاني : أنه لأقرب الناس إلى الواقف ، وكذا ذكر صاحب " الإيضاح " أن يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 335 ] قلت : الصحيح : ما أطلقه الجمهور ، لأن من بقي بعد موت بعض الأولاد يسمون أولادا ، بخلاف ما إذا مات أحد الشخصين . ثم إن مراعاة الترتيب لا تنتهي عند البطن الثالث ، والرابع بل يعتبر الترتيب في جميع البطون ، فلا يصرف إلى بطن وهناك أحد من بطن أقرب ، صرح به البغوي ، وغيره . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو قال : على أولادي وأولاد أولادي الأعلى فالأعلى ، أو الأقرب ، فالأقرب ، أو الأول فالأول ، أو يبدأ بالأعلى منهم ، أو على أن لا حق لبطن ، وهناك أحد فوقهم ، فمقتضاه الترتيب أيضا . ولو قال : فمن مات من أولادي فنصيبه لولده ، اتبع شرطه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : على أولادي ، ثم على أولاد أولادي ، وأولاد أولاد أولادي ، فمقتضاه الترتيب بين البطن الأول ، ومن دونهم ، والجمع بين من دونهم . ولو قال : على أولادي ، وأولاد أولادي ، ثم على أولاد أولاد أولادي ، فمقتضاه الجمع أولا ، والترتيب ثانيا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : على أولادي ، وأولاد أولادي ، ومن مات منهم ، فنصيبه لأولاده ، فمات واحد ، فنصيبه لأولاده خاصة ، ويشاركون الباقين فيما عدا نصيب أبيهم . المسألة الثانية : إذا وقف على الأولاد ، ففي دخول أولاد الأولاد ثلاثة أوجه : أصحها : لا يدخلون ، والثاني : يدخلون ، والثالث : يدخل أولاد البنين دون [ ص: 336 ] أولاد البنات ، وهذا الخلاف عند الإطلاق ، وقد يقرن باللفظ ما يقتضي الجزم بخروجهم ، كقوله : وقفت على أولادي ، فإذا انقرضوا فلأحفادي الثلث ، والباقي للفقراء ، ولو وقف على الأولاد ، ولم يكن له إلا أولاد الأولاد ، حمل اللفظ عليهم ، قاله المتولي ، وغيره ، ولو وقف على أولاده وأولاد أولاده ، ففي دخول أولاد أولاد أولاده الخلاف ، الثالثة : الوقف على الأولاد ، يدخل فيه البنون ، والبنات ، والخنثى المشكل . الرابعة : الوقف على البنين ، لا يدخل فيه الخنثى ، وفي دخول بني البنين ، والبنات الأوجه الثلاثة . الخامسة : الوقف على البنات ، لا يدخل فيه الخنثى ، وفي بنات الأولاد الأوجه . السادسة : وقف على البنين والبنات ، دخل الخنثى على الأصح ، وقيل : لا لأنه لا يعد من هؤلاء ، ولا من هؤلاء . السابعة : وقف على بني تميم ، وصححنا مثل هذا الوقف ، ففي دخول نسائهم وجهان : أحدهما : المنع ، كالوقف على بني زيد ، وأصحهما : الدخول لأنه يعبر به عن القبيلة . الثامنة : وقف على أولاده ، وأولاد أولاده ، دخل فيه أولاد البنين ، والبنات ، فإن قال : على من ينتسب إلي من أولاد أولادي ، لم يدخل أولاد البنات على الصحيح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        المستحقون في هذه الألفاظ ، لو كان أحدهم حملا عند الوقف ، هل يدخل حتى يوقف له شيء ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي . أحدهما : نعم ، كالميراث ، ويستحق [ ص: 337 ] الغلة في مدة الحمل . والصحيح : لا ، لأنه قبل الانفصال لا يسمى ولدا ، وأما غلة ما بعد الانفصال ، فيستحقها قطعا ، وكذا الأولاد الحادث علوقهم بعد الوقف ، يستحقون إذا انفصلوا . هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب ، وفي أمالي السرخسي خلافه .

                                                                                                                                                                        قلت : ومما يتفرع على الصحيح أنه لا يستحق غلة مدة الحمل : أنه لو كان الموقوف نخلة ، فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل ، لا يكون له من تلك الثمرة شيء ، كذا قطع به الفوراني ، والبغوي ، وأطلقاه . وقال الدارمي في " الاستذكار " : في الثمرة التي أطلعت ، ولم تؤبر ، قولان : هل لها حكم المؤبرة ، فتكون للبطن الأول ، أو لا ، فتكون للثاني ؟ وهذان القولان يجريان هنا - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        المنفي باللعان ، لا يستحق شيئا ، لانقطاع نسبه ، وخروجه عن كونه ولدا ، وعن أبي إسحاق : أنه يستحق ، وأثر اللعان مقصور على الملاعن .

                                                                                                                                                                        قلت : فلو استلحقه بعد نفيه دخل في الوقف قطعا ، ذكره البغوي - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التاسعة : قال : وقفت على ذريتي ، أو عقبي ، أو نسلي دخل فيه أولاد البنين والبنات ، قريبهم ، وبعيدهم ، ولو حدث حمل ، قال المتولي : يوقف نصيبه قطعا ، لأنه من نسله ، وعقبه قطعا ، ولو وقف على عترته ، قال ابن الأعرابي ، وثعلب : هم ذريته ، وقال القتيبي : هم عشيرته ، وهما وجهان للأصحاب ، أصحهما : الثاني ، وقد روي ذلك عن زيد بن أرقم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 338 ] قلت : هذان المذهبان مشهوران لأهل اللغة غير مختصين بالمذكورين ، لكن أكثر من جعلهم عشيرته خصهم بالأقربين ، قال الأزهري : قال بعض أهل اللغة : عترته : عشيرته الأدنون ، وقال الجوهري : عترته : نسله ورهطه الأدنون . وقال الزبيري : عترته : أقرباؤه من ولد ، وغيره ، ومقتضى هذه الأقوال أنه يدخل ذريته عشيرته الأدنون ، وهذا هو الظاهر المختار والله أعلم .

                                                                                                                                                                        العاشرة : قال : على عشيرتي ، فهو كقوله : على قرابتي . وإذا قال : على قرابتي ، أو أقرب الناس إلي ، فعلى ما سنذكره في الوصية - إن شاء الله تعالى - وقال المتولي : قوله : على قبيلتي ، أو عشيرتي ، لا يدخل فيه إلا قرابة الأب ، ثم إذا كانوا غير محصورين ، ففيهم الخلاف السابق ، ثم من حدث بعد الوقف يشاركون الموجودين عند الوقف على الصحيح ، وعن البويطي منعه .

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : اسم المولى يقع على المعتق ، ويقال له : المولى الأعلى ، وعلى العتيق ، ويقال له : المولى الأسفل ، فإذا وقف على مواليه ، وليس له إلا أحدهما ، فالوقف عليه ، وإن وجدا جميعا ، فهل يقسم بينهما ، أم يختص به الأعلى ، أم الأسفل ، أم يبطل الوقف ؟ فيه أربعة أوجه : أصحها في " التنبيه " الأول ، وفي " الوجيز " الرابع .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح الأول ، وقد صححه أيضا الجرجاني في " التحرير " ، وحكى الدارمي وجها خامسا ، أنه موقوف حتى يصطلحوا ، وليس بشيء والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية