الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر الجمهور على همز النسيء ومده وكسر سينه .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى شبل عن ابن كثير: "النسء" على وزن النسع . وفي [ ص: 435 ] رواية أخرى عن شبل: "النسي" مشددة الياء من غير همز ، وهي قراءة أبي جعفر; والمراد بالكلمة التأخير . قال اللغويون: النسيء: تأخير الشيء . وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة ، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم; فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده; ثم تتدافع الشهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها ، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه ، فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم ، لأنهم أحلوا الحرام ، وحرموا الحلال (ليواطؤوا) أي: ليوافقوا (عدة ما حرم الله) فلا يخرجون من تحريم أربعة ، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم ، ولا يبالون بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال . وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم ، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منى ، قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء; فيقولون: أنسئنا شهرا; يريدون: أخر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ، فيفعل ذلك . وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنما كان معاشهم من الإغارة ، فتستدير الشهور كما بينا . وقيل: إنما كانوا يستحلون المحرم عاما ، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه . قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إلي ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: كان أول من أظهر النسيء جنادة بن عوف الكناني ، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة ، فذلك حين قال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات [ ص: 436 ] والأرض" . وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يضل به الذين كفروا وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم: "يضل" بفتح الياء وكسر الضاد ، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم: "يضل" بضم الياء وفتح الضاد ، على ما لم يسم فاعله . وقرأ الحسن البصري ، ويعقوب إلا الوليد: "يضل" بضم الياء وكسر الضاد; وفيه ثلاثة أوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: يضل الله به . والثاني: يضل الشيطان به ، ذكرهما ابن القاسم . والثالث: يضل به الذين كفروا الناس ، لأنهم الذين سنوه لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو علي: التقدير: يضل به الذين كفروا تابعيهم . وقال ابن القاسم: الهاء في "به" راجعة إلى النسيء ، وأصل النسيء: المنسوء ، أي: المؤخر ، فينصرف عن "مفعول" إلى "فعيل" كما قيل: مطبوخ وطبيخ ، ومقدور وقدير ، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم ، لأن النسيء كشف تأويل الظلم ، فجرى مجرى المظهر; والأول اختيارنا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية