nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين افتتحت السورة كما تفتتح العهود وصكوك العقود بأدل كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم : هذا ما عهد به فلان ، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان ، وقول الموثقين : باع أو وكل أو تزوج ، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها .
[ ص: 103 ] وتنكير براءة تنكير التنويع ، وموقع براءة مبتدأ ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أن هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدم في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=1المص nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كتاب أنزل إليك
والمجروران في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم في موضع الخبر لأنه المقصود من الفائدة . أي : البراءة صدرت من الله ورسوله .
و " من " ابتدائية ، و " إلى " للانتهاء لما أفاده حرف " من " من معنى الابتداء . والمعنى أن هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغا إلى الذين عاهدتم من المشركين .
والبراءة الخروج والتفصي مما يتعب ورفع التبعة . ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويعد الإخلاف بشيء منه غدرا على المخلف ، كان الإعلان بفسخ العهد براءة من التبعات التي كانت بحيث تنشأ عن إخلاف العهد ، فلذلك كان لفظ " براءة " هنا مفيدا معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهدون حذرهم . وقد كان العرب ينبذون العهد ويردون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما ، كما فعل
ابن الدغنة في رد جوار
أبي بكر عن
قريش ، وما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون في رد جوار
الوليد بن المغيرة إياه قائلا رضيت بجوار ربي ولا أريد أن أستجير غيره . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين أي : ولا تخنهم لظنك أنهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم .
ولما كان الجانب الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته ، هو جانب النبيء - صلى الله عليه وسلم - بإذن من الله ، جعلت هذه البراءة صادرة من الله لأنه الآذن بها ، ومن رسوله لأنه المباشر لها . وجعل ذلك منهى إلى المعاهدين من المشركين لأن المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصاله ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدرا .
والخطاب في قوله : عاهدتم للمؤمنين . فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها .
واعلم أن العهد بين النبيء - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة ، فكان بينه وبين
أهل مكة ومن ظاهرهم عهد
الحديبية :
[ ص: 104 ] أن لا يصد أحد عن البيت إذا جاء ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام ، وقد كان معظم قبائل العرب داخلا في عقد
قريش الواقع في
الحديبية لأن
قريشا كانوا يومئذ زعماء جميع العرب ، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ : أن من أحب أن يدخل في عهد
محمد دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد
قريش دخل فيه ، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض ، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية . وهذا العهد ، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين ، فقد كان عديله لازما لفائدة المشركين على المسلمين ، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح
مكة فزال ما زال منه بعد فتح
مكة وإسلام
قريش وبعض أحلافهم .
وكان بين المسلمين وبعض قبائل المشركين عهود ; كما أشارت إليه سورة النساء في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق الآية . وكما أشارت إليه هذه السورة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا الآية .
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معين ، وبعضها كان لأجل قد انقضى ، وبعضها لم ينقض أجله . فقد كان صلح
الحديبية مؤجلا إلى عشر سنين في بعض الأقوال وقيل : إلى أربع سنين ، وقيل : إلى سنتين . وقد كان عهد
الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فيكون قد انقضت مدته على بعض الأقوال ، ولم ينقض على بعضها ، حين نزول هذه الآية . وكانوا يحسبون أنه على حكم الاستمرار وكان بعض تلك العهود مؤجلا إلى أجل لم يتم ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير المعاهدين ، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين ، فقد ذكر أنه لما وقعت غزوة
تبوك أرجف المنافقون أن المسلمين غلبوا فنقض كثير من المشركين العهد ، وممن نقض العهد بعض
خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة أو
جذيمة ، كما دل عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حذرهم ، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك ; لأن الأرض صارت لأهل الإسلام كما دل عليه قوله - تعالى - بعد
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=3فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله [ ص: 105 ] وإنما جعلت البراءة شأنا من شئون الله ورسوله ، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين : للإشارة إلى أن العهود التي عقدها النبيء - صلى الله عليه وسلم - لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم ; لأن عهود النبيء - عليه الصلاة والسلام - إنما كانت لمصلحة المسلمين ، في وقت عدم استجماع قوتهم ، وأزمان كانت بقية قوة للمشركين ، وإلا فإن أهل الشرك ما كانوا يستحقون من الله ورسوله توسعة ولا عهدا لأن مصلحة الدين تكون أقوم إذا شدد المسلمون على أعدائه ، فالآن لما كانت مصلحة الدين متمحضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبراءة من ذلك العهد ، فلا تبعة على المسلمين في نبذه ، وإن كان العهد قد عقده النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليعلموا أن ذلك توسعة على المسلمين ، على نحو ما جرى من المحاورة بين
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - يوم صلح
الحديبية ، وعلى نحو ما قال الله - تعالى - في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين ، على أن في الكلام احتباكا ، لما هو معروف من أن المسلمين لا يعملون عملا إلا عن أمر من الله ورسوله ، فصار الكلام في قوة : براءة من الله ورسوله ، ومنكم ، إلى الذين عاهدوا الله ورسوله وعاهدتم ، فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلها الموصول في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1إلى الذين عاهدتم من المشركين . فالتعريف بالموصولية هنا لأنها أخصر طريق للتعبير عن المقصود ، مع الإشارة إلى أن هذه البراءة براءة من العهد ، ثم بين بعضها بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا الآية .
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ كَمَا تُفْتَتَحُ الْعُهُودُ وَصُكُوكُ الْعُقُودِ بِأَدَلِّ كَلِمَةٍ عَلَى الْغَرَضِ الَّذِي يُرَادُ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ : هَذَا مَا عَهِدَ بِهِ فُلَانٌ ، وَهَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، وَقَوْلِ الْمُوَثِّقِينَ : بَاعَ أَوْ وَكَّلَ أَوْ تَزَوَّجَ ، وَذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي إِنْشَاءِ الرَّسَائِلِ وَالْمَوَاثِيقِ وَنَحْوِهَا .
[ ص: 103 ] وَتَنْكِيرُ بَرَاءَةٌ تَنْكِيرُ التَّنْوِيعِ ، وَمَوْقِعُ بَرَاءَةٌ مُبْتَدَأٌ ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ كَافٍ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=1المص nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=2كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْفَائِدَةِ . أَيْ : الْبَرَاءَةُ صَدَرَتْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَ " مِنْ " ابْتِدَائِيَّةٌ ، وَ " إِلَى " لِلِانْتِهَاءِ لِمَا أَفَادَهُ حَرْفُ " مِنْ " مِنْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ . وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَصْدَرَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ إِبْلَاغًا إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
وَالْبَرَاءَةُ الْخُرُوجُ وَالتَّفَصِّي مِمَّا يُتْعِبُ وَرَفْعُ التَّبِعَةِ . وَلَمَّا كَانَ الْعَهْدُ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَاهِدِينَ الْعَمَلَ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ وَيُعَدُّ الْإِخْلَافُ بِشَيْءٍ مِنْهُ غَدْرًا عَلَى الْمُخْلِفِ ، كَانَ الْإِعْلَانُ بِفَسْخِ الْعَهْدِ بَرَاءَةً مِنَ التَّبِعَاتِ الَّتِي كَانَتْ بِحَيْثُ تَنْشَأُ عَنْ إِخْلَافِ الْعَهْدِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ " بَرَاءَةٌ " هُنَا مُفِيدًا مَعْنَى فَسْخِ الْعَهْدِ وَنَبْذِهِ لِيَأْخُذَ الْمُعَاهِدُونَ حِذْرَهُمْ . وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَنْبِذُونَ الْعَهْدَ وَيَرُدُّونَ الْجِوَارَ إِذَا شَاءُوا تَنْهِيَةَ الِالْتِزَامِ بِهِمَا ، كَمَا فَعَلَ
ابْنُ الدُّغُنَّةِ فِي رَدِّ جِوَارِ
أَبِي بَكْرٍ عَنْ
قُرَيْشٍ ، وَمَا فَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=5559عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي رَدِّ جِوَارِ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِيَّاهُ قَائِلًا رَضِيتُ بِجِوَارِ رَبِّي وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ غَيْرَهُ . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=58وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ أَيْ : وَلَا تَخُنْهُمْ لِظَنِّكَ أَنَّهُمْ يَخُونُونَكَ فَإِذَا ظَنَنْتَهُ فَافْسَخْ عَهْدَكَ مَعَهُمْ .
وَلَمَّا كَانَ الْجَانِبُ الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ وَتَنْهِيَتِهِ ، هُوَ جَانِبُ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ ، جُعِلَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ صَادِرَةً مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهَا ، وَمِنْ رَسُولِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا . وَجُعِلَ ذَلِكَ مُنَهًّى إِلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ الْفَسْخِ إِلَيْهِمْ وَإِيصَالُهُ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسْخُ غَدْرًا .
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ : عَاهَدْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ . فَهَذِهِ الْبَرَاءَةُ مَأْمُورُونَ بِإِنْفَاذِهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ بَيْنَ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ عَهْدُ
الْحُدَيْبِيَةِ :
[ ص: 104 ] أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَ ، وَأَنْ لَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَقَدْ كَانَ مُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ
قُرَيْشٍ الْوَاقِعِ فِي
الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ
قُرَيْشًا كَانُوا يَوْمَئِذٍ زُعَمَاءَ جَمِيعِ الْعَرَبِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ : أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ
مُحَمَّدٍ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ
قُرَيْشٍ دَخَلَ فِيهِ ، وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ وَضْعُ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، فَالَّذِينَ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ النَّاسِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ . وَهَذَا الْعَهْدُ ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، فَقَدْ كَانَ عَدِيلُهُ لَازِمًا لِفَائِدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، حِينَ صَارَ الْبَيْتُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ فَزَالَ مَا زَالَ مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ وَإِسْلَامِ
قُرَيْشٍ وَبَعْضِ أَحْلَافِهِمْ .
وَكَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ ; كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=90إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ الْآيَةَ . وَكَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا الْآيَةَ .
وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُهُودِ كَانَ لِغَيْرِ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ ، وَبَعْضُهَا كَانَ لِأَجَلٍ قَدِ انْقَضَى ، وَبَعْضُهَا لَمْ يَنْقَضِ أَجَلُهُ . فَقَدْ كَانَ صُلْحُ
الْحُدَيْبِيَةِ مُؤَجَّلًا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ : إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ ، وَقِيلَ : إِلَى سَنَتَيْنِ . وَقَدْ كَانَ عَهْدُ
الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ ، فَيَكُونُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ ، وَلَمْ يَنْقَضِ عَلَى بَعْضِهَا ، حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِمْرَارِ وَكَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْعُهُودِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَتِمَّ ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ خَفَرُوا بِالْعَهْدِ فِي مُمَالَاةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُعَاهِدِينَ ، وَفِي إِلْحَاقِ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ ، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ غَزْوَةُ
تَبُوكَ أَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ غُلِبُوا فَنَقَضَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَهْدَ ، وَمِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَعْضُ
خُزَاعَةَ ، وَبَنُو مُدْلِجٍ ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ أَوْ
جُذَيْمَةَ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَعْلَنَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ ، وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ إِنْ دَامُوا عَلَى الشِّرْكِ ; لِأَنَّ الْأَرْضَ صَارَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدُ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=3فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [ ص: 105 ] وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَرَاءَةُ شَأْنًا مِنْ شُئُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأُسْنِدَ الْعَهْدُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ : لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا عَقَدُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ ; لِأَنَّ عُهُودَ النَّبِيءِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا كَانَتْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فِي وَقْتِ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِ قُوَّتِهِمْ ، وَأَزْمَانَ كَانَتْ بَقِيَّةُ قُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَوْسِعَةً وَلَا عَهْدًا لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ تَكُونُ أَقْوَمَ إِذَا شَدَّدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِ ، فَالْآنَ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَةُ الدِّينِ مُتَمَحِّضَةً فِي نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ أَذِنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَاءَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ ، فَلَا تَبِعَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نَبْذِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَدْ عَقَدَهُ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، عَلَى نَحْوِ مَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَبَيْنَ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَعَلَى نَحْوِ مَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا ، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ : بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمِنْكُمْ ، إِلَى الَّذِينَ عَاهَدُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَاهَدْتُمْ ، فَالْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهَا عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ جَمَعَهَا كُلَّهَا الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=1إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقْصُودِ ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ بَرَاءَةٌ مِنَ الْعَهْدِ ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَهَا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=4إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا الْآيَةَ .