الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل توبة الأوساط

قال : وتوبة الأوساط من استقلال العبد المعصية ، وهو عين الجرأة والمبارزة ، ومحض التزين بالحمية ، والاسترسال للقطيعة .

يريد أن استقلال المعصية ذنب ، كما أن استكثار الطاعة ذنب ، والعارف من صغرت حسناته في عينه ، وعظمت ذنوبه عنده ، وكلما صغرت الحسنات في عينك كبرت عند الله ، وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلت وصغرت عند الله ، وسيئاتك بالعكس ، ومن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية تلاشت حسناته عنده ، وصغرت جدا في عينه ، وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه ، وأن الذي يليق بعزته ، ويصلح له من العبودية أمر آخر ، وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها ، لأنه كلما استكثر منها فتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه ، فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ، ولو كانت أعمال الثقلين ، وإذا كثرت في عينه وعظمت دل على [ ص: 277 ] أنه محجوب عن الله ، غير عارف به وبما ينبغي له ، وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه ، لمشاهدته الحق ومستحقه ، وتقصيره في القيام به ، وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه .

إذا عرف هذا ، فاستقلال العبد المعصية عين الجرأة على الله ، وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه ، وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها ، وخفت على قلبه ، وذلك نوع مبارزة .

وأما قوله : ومحض التزين بالحمية ، أي بالمحاماة عن النفس ، وإظهار براءة ساحتها ، لا سيما إن انضاف إلى ذلك مشاهدة الحقيقة ، والاحتجاج بالقدر ، وقوله : وأي ذنب لي ، والمحرك لي غيري ، والفاعل في سواي ؟ وإنما أنا كالميت بين يدي الغاسل ؟ وما حيلة من ليس له حيلة ، وما قدرة من ليس له قدرة ؟ ونحو هذا مما يتضمن الجرأة على الله ومبارزته ، والمحاماة عن النفس ، واستصغار ذنوبه ومعاصيه إذا أضافها إلى الحكم ، فيسترسل إذا للقطيعة وهي المقاطعة لربه والانقطاع عنه ، فيصير خصما لله مع نفسه وشيطانه ، وهذا حال المحتجين بالقدر على الذنوب ، فإنهم خصماء الله عز وجل وهم مع الشياطين والنفوس على الله ، وهذا غاية البعد والطرد والانقطاع عن الله ؟ .

فإن قلت : فكيف كانت توبة العامة من استكثار الطاعات ؟ وتوبة من هم أخص منهم ، وأعلى درجة من استقلال المعصية ؟ وهلا كان الأمر بالضد ؟ .

قلت : الأوساط لما كانوا أشد طلبا لعيوب النفس والعمل ، وأكثر تفتيشا عليها انكشف لهم من ذنوبهم ومعاصيهم ما لم ينكشف للعامة ، وحرص هؤلاء على تنقية أنفسهم من الآفات ، والتفتيش على عيوب الأعمال ، فاستقلال السيئات آفة هؤلاء ، وقاطع طريقهم ، واستكثار الحسنات وعظمها في قلوب أولئك آفتهم ، وقاطع طريقهم ، فذكر ما هو الأخص الأغلب على كل واحدة من الطائفتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية