الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقال الله تعالى في معنى هذه الآية: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .

                                                          الإشارة إلى ما فعله الله سبحانه وتعالى بالمشركين من أهل مكة، إذ عجل لهم عذابا بتنكيل المسلمين بهم، وغيرهم من سطوة في أرض العرب وجاه وسلطان إلى أن يغلبوا على أمرهم، ويذلوا بعد عزة، وإلى ما فعله سبحانه بآل فرعون ومن قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين، فإن هؤلاء غيروا نفوسهم، وطمسوا فطرهم، فغير الله تعالى نعمته، فانتزع منهم ما كانوا في زرع فاكهين فيه.

                                                          والمعنى: كان هذا الذي أنزله بالكافرين بآيات الله تعالى قد وضع نظما حكيمة في هذا الوجود الإنساني بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أي أن نظام الله تعالى في الإنسان أنه أنعم عليه نعما لها واجب، وكما أنها له حق وعليها واجب، وأن الفطرة الإنسانية تدرك حق كل نعمة ، وتفسد هذه الفطرة بالاتجاه إلى الشر، وذلك تغيير وطمس لنور الفطرة، والمعنى أن الله تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، و"ما" هنا موصولة بمعنى الذي، والذي بأنفسهم هو نور الفطرة وإخلاصها، وما أخذه الله تعالى على ظهور بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فهذا العهد المودع في الفطرة - وهو التوحيد - هو الذي يغيرونه بأنفسهم، فكفار قريش كانت لهم القوة لأنهم كانوا يدينون بديانة إبراهيم ، ولكنهم غيروا ما بأنفسهم فشوهوا الفطرة، وأشركوا بالله أحجارا لا تضر ولا تنفع، وزاد تغييرهم لما في أنفسهم بأن جاءهم رسول من ربهم يدعوهم إلى التوحيد فعاندوا، وكفروا بآيات الله تعالى، فأزالهم من سطوتهم إلى حيث يغلبون على أمرهم.

                                                          [ ص: 3164 ] وكذلك آل فرعون ومن قبلهم آتاهم نعمة المال والسلطان فغيروا ما بأنفسهم من موجبات الفطرة وكفروا بالله وعبدوا غير الله، فغير الله النعمة، وأزال أموالهم، وأغرقهم في اليم، وكانوا عبرة المعتبرين، وهذه سنة الله في الأكوان وفي الناس.

                                                          وقوله تعالى: وأن الله سميع عليم جملة معطوفة على قوله تعالى: بأن الله لم يك مغيرا نعمة ولذلك كانت "أن" هي المفتوحة وليست المكسورة، والمعنى: ذلك التغيير بسبب أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم، وأن الله سميع عليم، أي: بسبب ما سنه الله، وبسبب أن الله تعالى سميع يسمع همسات القلوب، وخواطر النفوس وما يختلج في الأفئدة، فهو يعلم النفوس إذا تغيرت، عليم بكل ما يجري في الوجود، وما تتحرك به الجوارح، وما يعملون من أمور مغيبة على الناس فإنها لا تغيب عن الله.

                                                          وإن هذا النص يدل على أمرين جليلين:

                                                          أولهما - أن النفوس الإنسانية هي التي تتعلق بها الأحكام، ويجري الله تعالى أمره على ما في هذه النفوس من خير أو شر.

                                                          ثانيهما - أن النصر والتأييد من الله تعالى بالقوة إنما هو باستقامة النفوس، فإن استقام ما فيها استقام الأمر وكان النصر والتأييد.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية