الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 237 ] ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستيلائه عليها مدة ثلاثة أشهر حتى ارتحل منها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وفي هذه السنة كانت وقعة بقديد من أرض الحجاز بين أبي حمزة الخارجي - الذي كان حكم في أيام الموسم - وبين أهل المدينة فقتل الخارجي خلقا كثيرا من قريش وغيرهم ، ثم دخل الخارجي المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان فقتل الخارجي من أهلها خلقا ، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة ، وقد خطب الخارجي أهل المدينة 72 على المنبر النبوي فوبخهم وأنبهم ، وكان فيما وبخهم به أن قال : يا أهل المدينة ، إني مررت بكم أيام الأحول - يعني هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة في ثماركم ، فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص عن ثماركم ، فوضعه عنكم ، فزاد غنيكم غنى ، وزاد فقيركم فقرا ، فكتبتم إليه : جزاك الله خيرا . فلا جزاه الله خيرا . في كلام طويل غير هذا ، وقد أقام أبو حمزة ثلاثة أشهر ; بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الأولى فيما قاله الواقدي وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقي يوما منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ، ولا لثأر قديم نيل منا ، [ ص: 238 ] ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت ، وضعف القائل بالحق ، وقتل القائم بالقسط ، ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ، فأجبنا داعي الله ، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض [ الأحقاف : 32 ] . أقبلنا من قبائل شتى ، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم ، يتعاورون لحافا واحدا . قليلون مستضعفون في الأرض ، فآوانا الله وأيدنا بنصره ، فأصبحنا والله بنعمة الله إخوانا ، ثم لقينا رجالكم بقديد ، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد . ثم أقبلوا نحونا يهرعون يزفون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه ، وغلت بدمائهم مراجله ، وصدق عليهم ظنه ، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب ، بكل مهند ذي رونق ، فدارت رحانا واستدارت رحاهم ، بضرب يرتاب منه المبطلون ، وأنتم يا أهل المدينة ، إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، يا أهل المدينة ، أولكم خير أول ، وآخركم شر آخر . يا أهل المدينة ، الناس منا ونحن منهم ، إلا مشركا عابد وثن ، أو كافر أهل الكتاب ، أو إماما جائرا . يا أهل المدينة ، من زعم أن الله كلف نفسا فوق طاقتها ، أو سألها ما لم يؤتها ، فهو لله عدو ، ولنا حرب . يا أهل المدينة ، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف ، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد ، فأخذها لنفسه ، مكابرا محاربا لربه . يا أهل المدينة ، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي ; قلتم : شباب أحداث ، وأعراب جفاة . ويحكم ! يا أهل المدينة ، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا أحداثا ؟ ! شباب والله مكتهلون في شبابهم ، [ ص: 239 ] غضة عن الشر أعينهم ، ثقيلة عن الباطل أقدامهم ، قد باعوا لله أنفسا تموت بأنفس لا تموت ، قد خالطوا كلالهم بكلالهم ، وقيام ليلهم بصيام نهارهم ، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن ، كلما مروا بآية خوف شهقوا ; خوفا من النار ، وإذا مروا بآية شوق شهقوا ; شوقا إلى الجنة ، فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت ، وإلى الرماح قد شرعت ، وإلى السهام قد فوقت ، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت ، استخفوا وعيد الكتيبة لوعيد الله ، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة ، فطوبى لهم وحسن مآب ، فكم من عين في منقار طائر طالما فاضت في جوف الليل من خوف الله تعالى ، وكم من يد زالت عن مفصلها طالما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله . أقول قولي هذا ، وأستغفر الله من تقصيرنا ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم روى المدائني عن العباس ، عن هارون عن جده قال : كان أبو حمزة الخارجي قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس حين سمعوه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : برح الخفاء أين ما بك يذهب ؟ ! من زنى فهو كافر ، ومن سرق فهو كافر . فأبغضه الناس ، ورجعوا عن محبته . وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد بني سعد في خيول أهل الشام أربعة آلاف ، قد انتخبها من جيشه ، وأعطى كل رجل منهم مائة [ ص: 240 ] دينار ، وفرسا عربية وبغلا لثقله ، وأمره أن يقاتله ، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها ، وليقاتل نائب صنعاء عبد الله بن يحيى فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصدا مروان فاقتتلوا هنالك إلى الليل ، فقالوا : ويحك يا ابن عطية ! إن الله قد جعل الليل سكنا . فأبى أن يقلع عن القتال ، وما زال يقاتلهم حتى غلبهم وكسرهم ورجع فلهم إلى المدينة فنهض إليهم أهل المدينة فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، ودخل ابن عطية المدينة وقد انهزم جيش أبي حمزة عنها ، فيقال : إنه أقام بها شهرا ، ثم سار إلى مكة وقد استخلف على المدينة ، ثم استخلف على مكة ، وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى من صنعاء ، فاقتتلا فقتل ابن عطية عبد الله بن يحيى وبعث برأسه إلى مروان وجاء كتاب مروان إليه يأمره بعجلة السير إلى مكة ليحج بالناس عامه هذا ، فخرج من صنعاء في اثني عشر راكبا ، وترك جيشه بصنعاء ، ومعه خرج فيه أربعون ألف دينار ، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلا هنالك ، إذ أقبل إليه أميران ، يقال لهما : ابنا جمانة . من سادات تلك الناحية ، ومعهما طائفة من أصحابهما فأحدقوا بابن عطية وأصحابه . فقالوا : ويحكم ! أنتم لصوص . فقال : ويحكم ! هذا كتاب أمير المؤمنين إلي بإمرة الحج في هذا العام ، فنحن نعجل السير لنلحق الموسم ، وأنا ابن عطية . فقالوا : هذا باطل . ثم حملوا عليهم ، فقتلوا ابن عطية وأصحابه ، ولم يفلت منهم إلا رجل واحد ، وأخذوا ما معهم من المال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 241 ] قال أبو معشر : وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف ، ونائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار ، غير أن أبا مسلم قد انتزع منه أماكن كثيرة من خراسان وكورا ورساتيق وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده ويستنجده ويطلب أن يمده من عنده بعشرة آلاف قبل أن لا يكفيه مائة ألف ، وكتب إلى مروان يستمده ، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يمده بما أراد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان شعيب بن الحبحاب ، وعبد العزيز بن صهيب ، وعبد العزيز بن رفيع ، وكعب بن علقمة ، ومحمد بن المنكدر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية