الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد تفريع على قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فإن كان المراد في الآية المعطوف عليها بالأربعة الأشهر أربعة تبتدئ من وقت نزول " براءة " كان قوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم تفريعا مرادا منه زيادة قيد على قيد الظرف من قوله : أربعة أشهر أي : فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، وإن كانت الأربعة الأشهر مرادا بها الأشهر الحرم كان قوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم تصريحا بمفهوم الإذن بالأمن أربعة أشهر ، المقتضي أنه لا أمن بعد انقضاء الأربعة الأشهر ، فهو على حد قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله : غير محلي الصيد وأنتم حرم فيكون تأجيلا لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر ، ثم تحذيرا من خرق حرمة شهر رجب ، وكذلك يستمر الحال في كل عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى : منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم

وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ . وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان ، أي إزالته . ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة .

والحرم جمع حرام وهو سماعي لأن " فعلا " بضم الفاء والعين إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد . وحرام صفة . وقال الرضي في باب الجمع من شرح الشافية : إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع . وقد تقدم عند قوله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام سورة البقرة . وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب .

[ ص: 115 ] وانسلاخها انقضاء المدة المتتابعة منها ، وقد بقيت حرمتها ما بقي من المشركين قبيلة ، لمصلحة الفريقين ، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم ; لأن حرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها .

والأمر في فاقتلوا المشركين للإذن والإباحة باعتبار كل واحد من المأمورات على حدة ، أي فقد أذن لكم في قتلهم وفي أخذهم ، وفي حصارهم ، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام ، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة ، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر والمقصود هنا : أن حرمة العهد قد زالت .

وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنهم لا يقبل منهم غير الإسلام . وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة . وقد عمت الآية جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة .

والأخذ : الأسر .

والحصر : المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين .

والقعود مجاز في الثبات في المكان ، والملازمة له ; لأن القعود ثبوت شديد وطويل . فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظان تطرق العدو المشركين إلى بلاد الإسلام ، وفي مظان وجود جيش العدو وعدته .

والمرصد مكان الرصد . والرصد : المراقبة وتتبع النظر .

و " كل " مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها ، تحذيرا للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدو منها ، أو من التفريط في بعض ممار العدو فينطلق الأعداء آمنين فيستخفوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أن المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة ، فيؤول معنى " كل " هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة :




بها كل ذيال وخنساء تـرعـوي إلى كل رجاف من الرمل فارد

[ ص: 116 ] وانتصب كل مرصد إما على المفعول به بتضمين اقعدوا معنى " الزموا " كقوله تعالى : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، وإما على التشبيه بالظرف لأنه من حق فعل القعود أن يتعدى إليه بـ " في " الظرفية فشبه بالظرف وحذفت " في " للتوسع .

وتقدم ذكر " كل " عند قوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها في سورة الأنعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية