الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيما يمنع الإجزاء من العيوب في العبيد وما لا يمنع]

                                                                                                                                                                                        والعيوب خمسة: عيب يمنع العبد السعي والقيام بنفسه؛ لأنها زمانة أو في معنى الزمانة لما تعطل من الانتفاع بنفسه، فذلك غير جائز كالعمى والقعد وزوال العقل والفالج، وإن كان ببعض الجسد كالشلل وقطع اليد والأصابع وما أشبه ذلك مما يعطل اليد أو يضعفها أو يفسد استعمالها.

                                                                                                                                                                                        وعيب لا يمنع السعي وهو يسير، ولا يخشى تناميه، فذلك جائز كالمرض الخفيف وقطع الأنملة والجدع من الأذن، وذهاب بعض الأسنان والصمم الخفيف، والعرج الخفيف.

                                                                                                                                                                                        وعيب يسير شأنه التنامي لجميع الجسد كبداية الجذام والبرص، فاختلف [ ص: 2332 ] هل يجزئ أم لا؟

                                                                                                                                                                                        فقال ابن القاسم في الجذام والبرص: لا يجزئه جملة، ولم يفرق بين قليله وكثيره، وقال أشهب في البرص الخفيف: يجزئ. وراعى حالة العبد وقت العتق، وإن كان مما يتنامى بعد ذلك، وعلى هذا يجزئ إذا كان في بداية الجذام، ويقاس عليه من كان به بداية السل وشبهه.

                                                                                                                                                                                        وعيب كثير يعم الجسد كالجذام والبرص فهو غير جائز، وإن لم يمنعه السعي، وقاله ابن حبيب في السل، والمراد أنه لا يجزئ.

                                                                                                                                                                                        وعيب كثير يخص بعض الجسد ولا يؤثر في العجز عن السعي ولا يخشى تناميه كالعور والصمم والعرج والخصاء، فاختلف هل يجزئه أم لا؟ لأن له قدرا، ولا يمنعه من السعي، فقال في المدونة في العور: يجزئ.

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد: لا يجزئ، والعور شين كثير أذهب عضوا شريفا مقدرا من الحر بنصف الدية إلا أنه لا ينقص من السعي، وقال في الصمم والعرج البين: لا يجزئ.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: يجزئ. [ ص: 2333 ]

                                                                                                                                                                                        وفي الخصاء ثلاثة أقوال: فكرهه في المدونة، وقال أيضا: لا يجزئ، ولو كان خصيا غير مجبوب ما أجزأ، وقال أشهب في كتاب محمد: يجزئ الخصي.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في الأخرس والذاهب الأسنان وأشراف الأذنين. فقال ابن القاسم: لا يجزئ، وعلى قول أشهب يجزئ لأنه عيب يختص ببعض الجسم ويؤمن تناميه، ولا يمنع السعي، وقد قال في الصمم إنه يجزئ، وذهاب أشراف الأذنين أخف.

                                                                                                                                                                                        واختلف في المجنون، فقال مالك وابن القاسم: لا يجزئ.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: إن كان يجن في كل شهر مرة يجزئ، ورأى أن القدر الذي يجن فيه يسير في جنب الصحة؛ لأنه جزء من ثلاثين إن كان يجن يوما وليلة، أو جزء من ستين إن كان يجن أحد الزمانين وما أبعد في القول.

                                                                                                                                                                                        واختلف في المريض، فقال محمد: يجزئ ما لم ينازع. وفي المدونة في الأبرص يجزئ إذا كان خفيفا ولم يكن مرضا، فرأى أن المريض يمنع الإجزاء. يريد إذا كان بينا، ولا يجزئ المقطوع الأصبعين واختلف في الأصبع [ ص: 2334 ] الواحد، فقال ابن القاسم: لا يجزئ. وقال غيره: يجزئ.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون في كتاب محمد: يجزئ، وإن كانت الإبهام وليس بالبين، وإن كان الخنصر وما والاه رأيت أنه يجزئ.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: الأصابع مختلفة المنفعة، فإن كان الذاهب قد أذهب معظم الانتفاع باليد أو كثيرا منها لم يجزئ، وإن كان معظم الانتفاع قائما أجزأ، وأما الأصبعان من يد أو رجل فهو يوهنها ويقبح شأنها فلا يجزئ، ولو كان أحدهما من يد والآخر من رجل أجزأه فوجه منع الإجزاء إذا كان العيب له قدر وبال ولا يمنع السعي قياسا على الهدايا والضحايا؛ لأن جميعها قرب يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه بمعيب، ووجه الإجزاء أن المقصود من بني آدم الدين والصلاح ولا يلزم على هذا أن يجزئ ذاهب اليد ولا الرجل، ولا ما أشبه ذلك: لأنه معتق لبعض عبد. [ ص: 2335 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية