الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 257 ] صفة مقتل مروان الحمار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما انهزم مروان من المعركة سار لا يلوي على أحد ، فأقام عبد الله بن علي في مكان المعركة سبعة أيام ، ثم سار في طلبه بمن معه من الجنود ، وذلك عن أمر السفاح له بذلك ، فلما مر مروان بحران اجتاز بها ، وأخرج أبا محمد السفياني من سجنه ، واستخلف عليها أبان بن يزيد وهو ابن أخيه وزوج ابنته أم عثمان ، فلما قدم عبد الله بن علي حران خرج إليه أبان بن يزيد مسودا ، فأمنه عبد الله بن علي وأقره على عمله ، وهدم الدار التي سجن فيها إبراهيم بن محمد الإمام واجتاز مروان بقنسرين قاصدا إلى حمص ، فلما جاءها خرج إليه أهلها بالأسواق ، فأقام بها يومين أو ثلاثة ، ثم شخص منها ، فلما رأوا قلة من معه اتبعوه ; طمعا فيه ، وقالوا : مرعوب منهزم . فأدركوه بواد عند حمص ، فأكمن لهم أميرين ، فلما تلاحقوا بمروان عطف عليهم ، فناشدهم أن يرجعوا ، فأبوا إلا مقاتلته ، فثار القتال بينهم ، وثار الكمينان من ورائهم ، فانهزم الحمصيون ، وجاء مروان إلى دمشق وعلى نيابتها من جهته زوج ابنته أم الوليد ، وهو الوليد بن معاوية بن مروان ، فتركه بها ، واجتاز عنها قاصدا إلى الديار المصرية ، وجعل عبد الله بن علي لا يمر ببلد إلا خرجوا وقد سودوا ، فيبايعونه ويعطيهم الأمان ، ولما وصل إلى قنسرين وصل إليه أخوه عبد الصمد بن علي [ ص: 258 ] في أربعة آلاف ، وقد بعثهم السفاح مددا له ، ثم سار عبد الله حتى أتى حمص ، ثم سار منها إلى بعلبك ، وجاء دمشق من ناحية المزة فنزل بها يومين ، ثم جاءه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مددا من السفاح فنزل صالح بمرج عذراء ، ولما جاء عبد الله بن علي دمشق نزل على الباب الشرقي ، ونزل صالح بن علي على باب الجابية ، ونزل أبو عون على باب كيسان ، وبسام على باب الصغير وحميد بن قحطبة على باب توما ، وعبد الصمد ، ويحيى بن صفوان ، والعباس بن يزيد على باب الفراديس فحاصروها أياما ، ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان هذه السنة ، فقتل من أهلها خلقا كثيرا ، وأباحها ثلاث ساعات ، وهدم سورها ، ويقال : إن أهلها لما حاصرهم عبد الله بن علي اختلفوا فيما بينهم ، ما بين عباسي وأموي ، حتى اقتتلوا ، فقتل بعضهم بعضا ، وقتلوا نائبهم ، ثم سلموا البلد ، وكان أول من صعد السور من ناحية الباب الشرقي رجل يقال له : عبد الله الطائي . ومن ناحية الباب الصغير بسام بن إبراهيم ، ثم أبيحت دمشق ثلاث ساعات حتى قيل : إنه قتل بها في هذه المدة نحوا من خمسين ألفا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبيد الله بن الحسن الأعرج من ولد جعفر بن أبي طالب وكان أميرا على خمسة آلاف مع عبد الله بن علي في حصار دمشق ، أنهم أقاموا محاصريها خمسة أشهر ، وقيل : مائة يوم . وقيل : شهرا ونصفا . وأن البلد كان قد حصنه نائب مروان تحصينا [ ص: 259 ] عظيما ، ولكن اختلف أهلها فيما بينهم بسبب اليمانية والمضرية ، وكان ذلك سبب الفتح ، حتى إنهم جعلوا في كل مسجد محرابين للقبلتين ، حتى في المسجد الجامع منبرين وإمامين يخطبان يوم الجمعة على المنبرين ، وهذا من عجيب ما وقع ، وغريب ما اتفق ، وفظيع ما أحدث بسبب الفتنة والهوى والعصبية ، نسأل الله السلامة والعافية . وقد بسط ذلك الحافظ في الترجمة المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر في ترجمة محمد بن سليمان بن عبد الله النوفلي قال : كنت مع عبد الله بن علي أول ما دخل دمشق ، دخلها بالسيف ثلاث ساعات من النهار ، وجعل مسجد جامعها سبعين يوما إصطبلا لدوابه وجماله ، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء ، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجد جمجمة ، وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو ، غير هشام بن عبد الملك ، فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه ، فضربه بالسياط وهو ميت ، وصلبه أياما ، ثم أحرقه بالنار ، ودق رماده ، ثم ذراه في الريح ، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي - حين كان قد اتهمه بقتل ولد له صغير - سبعمائة سوط ، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء . قال : ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم ، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين نفسا عند نهر بالرملة وبسط عليهم الأنطاع ، ومد عليهم سماطا ، [ ص: 260 ] فأكل وهم يختلجون تحته ، وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال ، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة ، فما زالوا يزنون بها ، ثم قتلوها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد استدعى بالأوزاعي فأوقف بين يديه ، فقال له : يا أبا عمرو ما تقول في هذا الذي صنعنا ؟ قال له : لا أدري ، غير أنه قد حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات فذكر الحديث . قال الأوزاعي : وانتظرت رأسي يسقط بين رجلي ، ثم أخرجت ، وبعث إلي بمائة دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأقام بها عبد الله بن علي خمسة عشر يوما ثم سار وراء مروان فنزل على نهر الكسوة ، ووجه يحيى بن جعفر الهاشمي نائبا على دمشق ، ثم ارتحل إلى الأردن فأتوه وقد سودوا ، ثم سار إلى بيسان ، ثم سار فنزل مرج الروم ثم أتى نهر أبي فطرس ، فوجد مروان قد هرب فدخل الديار المصرية ، وجاءه كتاب [ ص: 261 ] السفاح أن وجه صالح بن علي في طلب مروان ويقيم هو بالشام نائبا عليها ، فسار صالح في طلب مروان في ذي القعدة من هذه السنة ، ومعه أبو عون ، وعامر بن إسماعيل فنزل على ساحل البحر ، وجمع ما هناك من السفن ، وبلغه أن مروان قد نزل الفرما ، فجعل يسير على الساحل والسفن تقاد معه في البحر حتى أتى العريش ثم سار حتى نزل على النيل ثم سار إلى الصعيد ، فعبر مروان النيل ، وقطع الجسر وحرق ما حوله من العلف والطعام ، ومضى صالح في طلبه ، فالتقى بخيل لمروان فهزمهم ، ثم جعل كلما التقوا مع خيل لمروان يهزمونهم ، حتى سألوا بعض من أسروا عن مروان فدلوهم عليه ، وإذا به في كنيسة بوصير ، فوافوه من آخر الليل ، فانهزم من معه من الجند ، وخرج إليهم مروان في نفر يسير ، فأحاطوا به حتى قتلوه ; طعنه رجل من أهل البصرة يقال له : مغود . ولا يعرفه ، حتى قال رجل : صرع أمير المؤمنين . فابتدر إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان ، فاحتز رأسه ، فبعث به عامر بن إسماعيل أمير هذه السرية إلى أبي عون فبعث به أبو عون إلى صالح بن علي فبعث به صالح مع رجل يقال له : خزيمة بن يزيد بن هانئ . كان على شرطته ، إلى أمير المؤمنين السفاح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان مقتل مروان يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة ، وقيل : يوم الخميس لست بقين منها سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، فكانت خلافته خمس [ ص: 262 ] سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ، على المشهور ، واختلفوا في سنه يوم قتل ; فقيل : أربعون سنة . وقيل : ست - وقيل : ثمان - وخمسون سنة . وقيل : ستون . وقيل : اثنتان - وقيل : ثلاث . وقيل : تسع - وستون سنة . وقيل : ثمانون . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن صالح بن علي سار إلى الشام ، واستخلف على مصر أبا عون بن يزيد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية