الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب ما يفسد الصوم وما لا يفسده ) الفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد ، وهو عدم الصحة ، وهي عند الفقهاء اندفاع وجوب القضاء بالإتيان بالشرائط ، والأركان ، وقد يظن أنه الصحة والفساد في العبادات من أحكام الشرع الوضعية ، وقد أنكر ذلك ، وإنما حكمنا به عقلي على ما عرف في تحرير الأصول بخلافهما في المعاملات ، فإن ترتب أثر المعاملة مطلوب التفاسخ شرعا هو الفساد ، وغير مطلوب التفاسخ هو الصحة ، وعدم ترتب الأثر أصلا هو البطلان ( قوله فإن أكل الصائم ، أو شرب أو جامع ناسيا إلى آخره ) لحديث الجماعة إلا النسائي { من نسي ، وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه } والمراد بالصوم الشرعي لا اللغوي الذي هو مطلق الإمساك للاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب خصوصا قد ورد في صحيح ابن حبان { ، ولا قضاء عليك } وعند البزار { فلا يفطر } وألحق الجماع به دلالة للاستواء في الركنية لا قياسا فاندفع به القياس المقتضي للفطر لفوات الركن ، وحقيقة النسيان عدم استحضار الشيء وقت حاجته قالوا : وليس عذرا في حقوق العباد ، وفي حقوقه - تعالى - عذر في سقوط الإثم أما الحكم فإن كان مع مذكر ، ولا داعي إليه كأكل المصلي لم يسقط لتقصيره بخلاف سلامه في القعدة فإنه ساقط لوجود الداعي ، وإن لم يكن مع مذكر وله داع كأكل الصائم سقط ، وإن لم يكن معه مذكر ، ولا داع فأولى بالسقوط كترك الذابح التسمية ، وخرج ما إذا أكل ناسيا فذكره إنسان بالصوم ، ولم يتذكر فأكل فسد صومه في الصحيح خلافا لبعضهم كذا في الظهيرية ; لأنه أخبر بأن هذا الأكل حرام عليه ، وخبر الواحد في الديانات مقبول فكان يجب أن يلتفت إلى تأمل الحال لوجود المذكر

                                                                                        [ ص: 292 ] والأولى أن لا يذكره إن كان شيخا ; لأن ما يفعله الصائم ليس بمعصية فالسكوت عنه ليس بمعصية ، ولأن الشيخوخة مظنة المرحمة ، وإن كان شابا يقوى على الصوم يكره أن لا يخبره والظاهر أنها تحريمية ; لأن الولوالجي قال : يلزمه أن يخبره ويكره تركه أطلقه فشمل الفرض والنفل ، ولو بدأ بالجماع ناسيا فتذكر إن نزع من ساعته لم يفطر ، وإن دام على ذلك حتى أنزل فعليه القضاء ثم قيل : لا كفارة عليه ، وقيل : هذا إذا لم يحرك نفسه بعد التذكر حتى أنزل فإن حرك نفسه بعده فعليه الكفارة كما لو نزع ثم أدخل ، ولو جامع عامدا قبل الفجر وطلع النزع في الحال فإن حرك نفسه فهو على هذا نظير ما قالوا لو أولج ثم قال لها : إن جامعتك فأنت طالق أو حرة إن نزع أو لم ينزع ، ولم يتحرك حتى أنزل لم تطلق ، ولا تعتق ، وإن حرك نفسه طلقت وعتقت ويصير مراجعا بالحركة الثانية ، ويجب للأمة العقر ، ولا حد عليها كذا في فتح القدير ، وفي الفتاوى الظهيرية رجل أصبح يوم الشك متلوما ثم أكل ناسيا ثم ظهر أنه من رمضان ونوى صوما ذكر في الفتاوى أنه لا يجوز ، وفي البقالي النسيان قبل النية كما بعدها ، وصححه في القنية قيد بالناسي ; لأنه لو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء خلافا للشافعي ، فإنه يعتبر بالناسي ، ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب ، ولأن النسيان من قبل من له الحق ، والإكراه من قبل غيره فيفترقان كالمقيد والمريض العاجز عن الأداء بالرأس في قضاء الصلاة حيث يقضي المقيد لا المريض

                                                                                        وأما حديث { رفع عن أمتي الخطأ } فهو من باب الاقتضاء ، وقد أريد الحكم الأخروي فلا حاجة إلى إرادة الدنيوي ; إذ هو لا عموم له كما عرف في الأصول ، وحقيقة الخطأ أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية كالمضمضة تسري إلى الحلق ، والفرق بين صورة الخطأ والنسيان هنا أن المخطئ ذاكر للصوم ، وغير قاصد للشرب والناسي عكسه في غاية البيان ، وقد يكون المخطئ غير ذاكر للصوم وغير قاصد للشرب لكنه في حكم الناسي هنا كما في النهاية والمؤاخذة بالخطأ جائزة عندنا خلافا للمعتزلة وتمامه في تحرير الأصول ومما ألحق بالمكره النائم إذا صب في حلقه ما يفطر ، وكذا النائمة إذا جامعها زوجها ، ولم تنتبه ، وفي الفتاوى الظهيرية : ولو أن رجلا رمى إلى رجل حبة عنب فدخلت حلقه ، وهو ذاكر لصومه يفسد صومه ، وما عن نصير بن يحيى فيمن اغتسل ودخل الماء في حلقه لم يفسد ا هـ .

                                                                                        [ ص: 293 ] خلاف المذهب ، وفي فتاوى قاضي خان : النائم إذا شرب فسد صومه وليس هو كالناسي ; لأن النائم ذاهب العقل وإذا ذبح لم تؤكل ذبيحته ، وتؤكل ذبيحة من نسي التسمية .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( باب ما يفسد الصوم وما لا يفسده ) .

                                                                                        ( قوله : بخلافهما في المعاملات ) قال الرملي : يعني : الفساد والبطلان في المعاملات متساويان ، وفي العبادات متغايران وقوله : مطلوب بالنصب على الحالية وقوله : هو الفساد في محل الرفع خبر إن يعني أن العقد المستحق للفسخ فاسد ، وغير المستحق له صحيح ، والذي لم ينعقد أصلا باطل ( قوله : إلى آخره ) إنما أتى بهذه الغاية لصحة الاستدلال بالحديث فإنه دليل لقوله لم يفطر الذي هو جواب الشرط لكن المقصود الاستدلال على عدم الفطر فيما ذكره فقط لا فيما عطف عليه أيضا من قول المتن : أو احتلم أو أنزل بنظر إلخ ( قوله : لحديث الجماعة ) قال في النهر : الأولى الاستدلال بما أخرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال { من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ، ولا كفارة } لجواز أن يراد بالصوم اللغوي ; لأنه بتقدير فطره يلزمه الإمساك تشبها ، وبه يستغنى عن قولهم : إذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الجماع دلالة ; إذ لفظ أفطر يعم ما إذا كان بالجماع أيضا

                                                                                        ( قوله : فسد صومه في الصحيح ) [ ص: 292 ] ظاهر اقتصاره على الفساد لا كفارة عليه ، وهو المختار كما في التتارخانية عن النصاب ( قوله : والأولى أن لا يذكره إن كان شيخا إلخ ) قال في الفتح ومن رأى صائما يأكل ناسيا إن رأى له قوة تمكنه أن يتم صومه بلا ضعف المختار أنه يكره أن لا يخبره ، وإن كان بحال يضعف بالصوم ، ولو أكل يتقوى على سائر الطاعات يسعه أن لا يخبره ا هـ .

                                                                                        قال في النهر : وقول الشارح إن كان شابا ذكره أو شيخا لا جرى على الغالب ثم هذا التفصيل جرى عليه غير واحد ، وفي السراج عن الواقعات إن رأى فيه قوة أن يتم الصوم إلى الليل ذكره وإلا فلا والمختار أنه يذكره ، وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين الفرض ، ولو قضاء أو كفارة والنفل في أنه يذكره أولا

                                                                                        ( قوله : لأن ما يفعله الصائم ليس بمعصية ) قال بعض الفضلاء تعليله بذلك يقتضي عدم التفرقة بين الشيخ والشاب ، والصواب أن يقال : إن ما يفعله معصية في نفسه ، وكذا النوم عن صلاة كما صرحوا أنه يكره السهر إذا خاف فوت الصبح لكن الناسي أو النائم غير قادر فسقط الإثم عنهما لكن وجب على من يعلم حالهما تذكير الناسي ، وإيقاظ النائم إلا في حق الضعيف عن الصوم مرحمة له ( قوله : وإن دام على ذلك حتى أنزل ) ليس الإنزال شرطا في إفساد الصوم ، وإنما ذكره لبيان حكم الكفارة في قوله ثم قيل إلخ نبه عليه الشرنبلالي في الإمداد ( قوله : فهو على هذا ) قال الشرنبلالي : يعني في لزوم الكفارة أما إفساد الصوم فيحصل بمجرد المكث فليتنبه له ( قوله : وفي البقالي : النسيان قبل النية كما بعدها ) أقول : الظاهر أن هذا في مسألة المتلوم لكونه في معنى الصائم ، ويؤيده أن صاحب القنية نقل التصحيح عقب مسألة المتلوم فقال بعد ما رمز لبعض المشايخ : والصحيح في النسيان قبل النية أنه كما بعدها ا هـ .

                                                                                        ولعل وجهه أن رمضان معين للصوم بتعيين الشارع فإذا أكل المتلوم ناسيا فيه لا يضره ، وإن كان قبل النية ; لأنه لما ظهرت رمضانيته وكان هو متلوما في معنى الصائم صار كأنه أكل بعد النية بخلاف النفل فإنه لو أكل ناسيا ثم نوى النفل

                                                                                        فالظاهر أنه لا يصح ; لأنه ليس متعينا للصوم من أول النهار ولأنه لم توجد النية لا حقيقة ، ولا حكما حتى يتحقق النسيان ولذا قال في السراج قيد بقوله فإن أكل الصائم إذ لو أكل قبل أن ينوي الصوم ناسيا ثم نوى الصوم لم يجزه ا هـ . فليتأمل .

                                                                                        ( قوله : وحقيقة الخطأ أن يقصد إلخ ) قال في النهر : وفي الفتح المراد بالمخطئ من فسد صومه بفعله المقصود دون قصد الفساد كمن تسحر على ظن عدم الفجر أو أكل يوم الشك ثم ظهر أنه في الفجر ورمضان ا هـ .

                                                                                        قال في النهر : وظاهر أن التسحر ليس قيدا بل لو جامع على هذا الظن فهو مخطئ ا هـ .

                                                                                        قلت : بل صرح بذلك في السراج وبه يستغنى عن التكلف لتصوير الخطأ في الجماع بما إذا باشرها مباشرة فاحشة فتوارت حشفته كما نبه عليه في النهر ( قوله : والمؤاخذة بالخطأ جائزة ) أي عقلا كما [ ص: 293 ] في شرح التحرير لابن أمير حاج ولذا سئل - تعالى - عدم المؤاخذة به .




                                                                                        الخدمات العلمية