الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر استقلال أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقب بالسفاح ، وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة والعدالة التامة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد تقدم أنه بويع له بالخلافة أول ما بويع بها بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر [ ص: 276 ] من ربيع الآخر - وقيل : الأول - من هذه السنة سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، ثم جرد الجيوش نحو مروان الحمار فطردوه من ممالكه وأجلوه عنها ، وما زالوا وراءه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد بالديار المصرية ، في العشر الأخيرة من ذي الحجة من هذه السنة ، على ما تقدم بيانه وتفصيله وبسطه ، وحينئذ استقل بالخلافة السفاح ، واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية ، لكن لم يحكم على بلاد الأندلس ولا على بلاد المغرب ; وذلك لأن بعض من دخل من بني أمية إليها استحوذ عليها ، كما سيأتي بيانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف ، فمنهم أهل قنسرين بعدما بايعوه على يدي عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم ، وهو أبو الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي وكان من أصحاب مروان وأمرائه ، فخلع السفاح ولبس البياض ، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه ، وكان السفاح يومئذ بالحيرة ، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المري ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح وبيض ، فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وركب نحو قنسرين ، فلما اجتاز بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف ، فلما جاوز البلد ، وانتهى إلى حمص نهض أهل دمشق مع رجل يقال له : عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة . فخلعوا [ ص: 277 ] السفاح وبيضوا ، وقاتلوا أبا غانم فهزموه ، وقتلوا جماعة من أصحابه ، وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي وحواصله ، ولم يتعرضوا لأهله ، وتفاقم الأمر على عبد الله بن علي ، وذلك أن أهل قنسرين تراسلوا مع أهل حمص وتدمر ، واجتمعوا على أبي محمد السفياني ، وهو أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فبايعوه عليهم بالخلافة ، وقام معه نحو من أربعين ألفا ، فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم ، فقدم عبد الله بن علي أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف من الفرسان بين يديه ، فاقتتلوا مع مقدمة السفياني ، وعليها أبو الورد ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وهزموا عبد الصمد ، وقتل من الفريقين ألوف ، فتقدم إليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة بمن معه ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت هو وحميد ، وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد ، وثبت أبو الورد في خمسمائة من أهل بيته وقومه ، فقتلوا جميعا ، وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر وآمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوا ورجعوا إلى الطاعة ، ثم كر راجعا إلى أهل دمشق ، وقد بلغه ما صنعوا ، فلما دنا منها تفرقوا عنها وهربوا منها ، ولم يكن بينهم وبينه قتال ، فأمنهم ودخلوا في الطاعة وسودوا ; موافقة للخليفة ، وكان ذلك شعار السمع والطاعة ، وأما أبو محمد السفياني ، فإنه ما زال متغيبا مشتتا من بلد إلى بلد حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيامه ، فقتله وبعث برأسه وبابنين له أخذهما أسيرين فأطلقهما أبو جعفر المنصور ، وخلى [ ص: 278 ] سبيلهما . وقد قيل : إن وقعة أبي محمد السفياني كانت يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن خلع السفاح أيضا أهل الجزيرة ; حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا ، وافقوهم وبيضوا ، وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو موسى بن كعب - وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد ، فحاصروه قريبا من شهرين ، ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسط محاصري ابن هبيرة فمر في مسيره إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا ، فغلقوا أبوابها دونه ، ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم وهم كذلك ، ثم جاء حران وعليها إسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها ، فرحل إسحاق عنها إلى الرها ، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران ، فتلقوا أبا جعفر ودخلوا في جيشه ، وقدم بكار بن مسلم على أخيه إسحاق بن مسلمبالرها فوجهه إلى جماعة ربيعة بدارا وماردين ، ورئيسهم حروري يقال له : بريكة . فصاروا حزبا واحدا ، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا ، فقتل بريكة في المعركة ، وهرب بكار إلى أخيه بالرها فاستخلفه بها ، ومضى في عظم العسكر إلى سميساط ، فخندق على عسكره ، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها وجرت له معه وقعات ، وكتب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط ، وقد اجتمع على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل [ ص: 279 ] الجزيرة ، فسار إليهم عبد الله بن علي ، واجتمع إليه أبو جعفر المنصور فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الأمان ، فأجابوه إلى ذلك على إذن أمير المؤمنين السفاح ، وولى السفاح أخاه أبا جعفر الجزيرة وأذربيجان وإرمينية ، فلم يزل عليها حتى ولي الخلافة بعد أخيه . ويقال : إن إسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الأمان لما تحقق أن مروان بن محمد قتل ، وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر ، وقد كان صاحبا لأبي جعفر المنصور فآمنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم الخراساني وهو أميرها ، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان الوزير ، وكان سبب ذلك أن السفاح سمر ليلة مع أهل بيته ، فتذاكروا ما كان من أمر أبي سلمة حين كان أراد أن يصرف الخلافة عن بني العباس ، فسأل سائل : هل كان ذلك عن ممالأة أبي مسلم له في ذلك أم لا ؟ فسكت القوم ، فقال السفاح : لئن كان هذا عن رأيه إنا لبعرض بلاء ، إلا أن يدفعه الله عنا . قال أبو جعفر : فقال لي أخي : ما ترى ؟ فقلت : الرأي رأيك . فقال : ليس أحد أخص بأبي مسلم منك ، فاذهب إليه فاعلم علمه ، فإن كان عن رأيه احتلنا له ، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا . قال أبو جعفر : فخرجت إليه قاصدا على وجل ، فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في السير ، فازددت وجلا ، فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا ، وقال لنائبها : لا تدعه يقيم ساعة واحدة ; فإن أرضك بها خوارج . فانشرحت لذلك ، فلما صرت من مرو على فرسخين ، أتى يتلقاني ومعه الناس ، فلما واجهني ترجل [ ص: 280 ] وجاء فقبل يدي ، فأمرته فركب ، فلما دخلت مرو نزلت في دار ، فمكث ثلاثا لا يسألني عن شيء ، فلما كان في اليوم الرابع سألني : ما أقدمك ؟ فأخبرته فقال : أفعلها أبو سلمة ؟ ! أنا أكفيكموه . فدعا مرار بن أنس الضبي فقال : اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة فاقتله ، وانته في ذلك إلى رأي الإمام . فقدم مرار الكوفة الهاشمية ، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح ، فلما خرج قتله مرار وشاع أن الخوارج قتلوه ، وغلقت البلد ، ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين ، ودفن بالهاشمية ، وكان يقال له : وزير آل محمد . ويقال لأبي مسلم : أمير آل محمد . وقد قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الوزير وزير آل محمد أودى فمن يشناك كان وزيرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : إنه إنما سار أبو جعفر إلى أبي مسلم بعد مقتل أبي سلمة وإن أبا جعفر كان معه ثلاثون رجلا ، منهم الحجاج بن أرطاة ، وإسحاق بن الفضل الهاشمي في جماعة من السادات . ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لأخيه السفاح : لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله . لما رأى من طاعة الجيش والأمراء له ، فقال له السفاح : اكتمها . فسكت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما رجع أبو جعفر من خراسان بعثه أخوه إلى حصار ابن هبيرة بواسط ، فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة أخذه معه ، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد الله بن حسن ليبايع له بالخلافة ، فأبطأ عليه جوابه ، فمال إلى مصالحة أبي جعفر فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك ، فأذن له في [ ص: 281 ] المصالحة ، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح ، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما . ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية ، فلما دنا من سرادق أبي جعفر هم أن يدخل بفرسه ، فقال الحاجب سلام : انزل أبا خالد . فنزل ، وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان ، ثم أذن له في الدخول فقال : أنا ومن معي ؟ قال : لا ، بل أنت وحدك . فدخل ووضعت له وسادة ، فجلس عليها ، فحادثه أبو جعفر ساعة ، ثم خرج من عنده ، فأتبعه أبو جعفر بصره ، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل ، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب : مره فليأت في حاشيته . فكان يأتي في ثلاثين نفسا ، فقال الحاجب : كأنك تأتي متأهبا ؟ فقال : لو أمرتمونا بالمشي لمشينا إليكم . ثم كان يأتيه في ثلاثة أنفس . وقد خاطب ابن هبيرة يوما لأبي جعفر فقال له في غبون كلامه : يا هناه . أو قال : يا أيها المرء . ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك ، فأعذره . وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن ذلك ، وكان السفاح لا يقطع رأيا دون مراجعة أبي مسلم ، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر لم يعجب السفاح ذلك ، وكتب إلى أبي جعفر يأمره بقتله ، فراجعه أبو جعفر مرارا لا يفيد شيئا ، حتى جاء كتاب السفاح إليه أن اقتله لا محالة ، وأقسم عليه في ذلك . فأرسل إليه أبو جعفر طائفة فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي له صغير ، وحوله مواليه وحاجبه ، فدافع عنه ابنه حتى [ ص: 282 ] قتل ، وقتل خلق من مواليه ، وخلصوا إليه ، فألقى الصبي من حجره ، وخر ساجدا ، فقتل وهو ساجد ، واضطرب الناس ، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر ، وخالد بن سلمة المخزومي ، وعمر بن ذر فسكن الناس ، ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة بعث أبو مسلم محمد بن الأشعث إلى فارس ، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم ، ففعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها ، وولى عمه داود بن علي مكة والمدينة واليمن واليمامة ، وعزله عن الكوفة ، وولى مكانه عليها عيسى بن موسى ، فولى قضاءها ابن أبي ليلى وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي ، وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة ، وعلى السند منصور بن جمهور ، وعلى فارس محمد بن الأشعث ، وعلى إرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور ، وعلى الشام وأعماله عبد الله بن علي عم السفاح ، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد ، وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني ، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك . وحج بالناس في هذه السنة داود بن علي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية