الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : هاروت وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      قد تقدم حديث ابن عمر في قصة آدم وبقيت آثار أخر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 508 ] أخرج سنيد، وابن جرير والخطيب في " تاريخه " عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت : لا . مرتين أو ثلاثا، ثم قلت : قد طلعت، قال : لا مرحبا بها ولا أهلا، قلت : سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع . قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب! قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال : فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا فألقى الله عليهم الشبق، قلت : وما الشبق؟ قال : الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها : الزهرة فوقعت في قلوبهما، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه، ثم قال أحدهما للآخر : هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال : نعم، فطلباها لأنفسهما فقالت : لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان . فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت ففعلا، فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتها ثم سألا التوبة من ربهما، فخيرهما فقال : إن شئتما رددتكما إلى ما [ ص: 509 ] كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، وإن شئتما عذبتكما في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه : إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول . فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فأوحى الله إليهما : أن ائتيا بابل، فانطلقا إلى بابل، فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض، معذبان إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور عن مجاهد قال : كنت مع ابن عمر في سفر فقال لي : ارمق الكوكبة، فإذا طلعت أيقظني، فلما طلعت أيقظته فاستوى جالسا، فجعل ينظر إليها ويسبها سبا شديدا، فقلت : يرحمك الله أبا عبد الرحمن، نجم ساطع مطيع ما له تسبه! فقال : ها إن هذه كانت بغيا في بني إسرائيل فلقي الملكان منها ما لقيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في " شعب الإيمان " من طريق موسى بن جبير عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشرفت الملائكة [ ص: 510 ] على الدنيا فرأت بني آدم يعصون فقالت : يا رب ما أجهل هؤلاء، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك! فقال الله : لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني . قالوا : كيف يكون هذا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك! قال : فاختاروا منكم ملكين . فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض، وركبت فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة، فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة . فنظر أحدهما إلى صاحبه قال : ما تقول؟ فاختر . قال : أقول : إن عذاب الدنيا ينقطع وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه وما أنزل على الملكين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في كتاب (العقوبات) ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في " شعب الإيمان " من طريق الثوري عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر ، عن كعب قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل : لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا، فليس بيني وبينكما رسول، انزلا لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا ولا تشربا الخمر . قال [ ص: 511 ] كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر ، أنه كان يقول : أطلعت الحمراء بعد؟ فإذا رآها قال : لا مرحبا، ثم قال : إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطا إلى الأرض، فأهبطا إلى الأرض، فكانا يقضيان بين الناس، فإذا أمسيا تكلما بكلمات، فعرجا بها إلى السماء، فقيض لهما امرأة من أحسن الناس، وألقيت عليهما الشهوة، فجعلا يؤخرانها، وألقيت في أنفسهما فلم يزالا يفعلان، حتى وعدتهما ميعادا فأتتهما للميعاد، فقالت : كلماني الكلمة التي تعرجان بها . فعلماها الكلمة، فتكلمت بها، فعرجت إلى السماء، فمسخت فجعلت كما ترون، فلما أمسيا تكلما بالكلمة، فلم يعرجا فبعث إليهما : إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم الساعة، على أن تلقيا الله، فإن شاء عذبكما، وإن شاء رحمكما . فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال أحدهما لصاحبه : بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف . فهما يعذبان إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 512 ] وأخرج إسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في (العقوبات) ، وابن جرير ، وأبو الشيخ في " العظمة "، والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب قال : إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة والعجم أناهيذ، وكان الملكان يحكمان بين الناس، فأتتهما، فأرادها كل واحد منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما : يا أخي، إن في نفسي بعض الأمر أريد أن أذكره لك . قال : اذكره لعل الذي في نفسي مثل الذي في نفسك . فاتفقا على أمر في ذلك، فقالت لهما المرأة : ألا تخبراني بما تصعدان به إلى السماء، وبما تهبطان به إلى الأرض؟ فقالا : باسم الله الأعظم . قالت : ما أنا بمؤاتيتكما حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه : علمها إياه، فقال : كيف لنا بشدة عذاب الله؟ قال الآخر : إنا نرجو سعة رحمة الله . فعلمها إياه، فتكلمت به فطارت إلى السماء، ففزع ملك في السماء لصعودها فطأطأ رأسه فلم يجلس بعد ومسخها الله فكانت كوكبا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 513 ] وأخرج ابن رهويه، وابن مردويه ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال : كانت الزهرة امرأة يقال لها في قومها : بيذخت . .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن ابن عباس قال : إن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكواكب الحمراء . يعني الزهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كنت نازلا عند عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه : انظر طلعت الحمراء؟ لا مرحبا بها ولا أهلا، ولا حياها الله، هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة : رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام، وينتهكون محارمك، ويفسدون في الأرض . قال : إني قد ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به، [ ص: 514 ] فعلتم كالذي يفعلون، قالوا : لا، قال : فاختاروا من خياركم اثنين . فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض، وعاهد إليكما : ألا تشركا، ولا تزنيا، ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض، وألقي عليهما الشبق، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما؛ فأراداها عن نفسها، فقالت : إني على دين لا يصلح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا : وما دينك؟ قالت : المجوسية . قالا : الشرك! هذا شيء لا نقربه . فمكثت عنهما ما شاء الله، ثم تعرضت لهما، فأراداها عن نفسها، فقالت : ما شئتما، غير أن لي زوجا، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما أن تصعدا بي إلى السماء فعلت . فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء فلما انتهيا إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما، فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا : لو أتينا فلانا فسألناه يطلب لنا التوبة، فأتياه فقال : رحمكما الله، كيف يطلب أهل الأرض لأهل السماء . قالا : إنا ابتلينا . قال : ائتياني يوم الجمعة . فأتياه فقال : ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية . فأتياه، فقال : اختارا، فقد خيرتما؛ إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله . فقال أحدهما : الدنيا لم يمض منها إلا القليل . [ ص: 515 ] وقال الآخر : ويحك، إني قد أطعتك في الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى، قال : إننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا . قال : لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة؛ لا يجمعهما علينا، قال فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار، أعاليهما أسافلهما . قال ابن كثير : إسناده جيد، وهو أثبت وأصح إسنادا من رواية معاوية بن صالح، عن نافع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه، والبيهقي في " شعب الإيمان " عن ابن عباس قال : لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله- قالت الملائكة في السماء : رب، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل مال الحرام، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرنهم، فقيل : إنهم في غيب . فلم يعذروهم، فقيل لهم : اختاروا منكم، من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما أن يعبداه [ ص: 516 ] ولا يشركا به شيئا، ونهاهما عن قتل النفس الحرام، وأكل مال الحرام، وعن الزنا وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنهما أتيا عليها، فخضعا لها في القول، وأراداها عن نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما، فقالت : هذا أعبده، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها، فأراداها عن نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبا، ثم أتيا فأراداها عن نفسها، فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما : اختارا أحد الخلال الثلاث، إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذا النفس، وإما أن تشربا هذا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر، فأخذت منهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه . فلما ذهب عنهما السكر، وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة، أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك : [ ص: 517 ] والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض [ الشورى : 5]، فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض، فرأوهم يعملون بالمعاصي فقالوا : يا رب، أهل الأرض يعملون بالمعاصي . فقال الله : أنتم معي، وهم غيب عني . فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة : فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا ألا يشربوا خمرا، ولا يقتلون نفسا، ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن، فاستقال منهم واحد، فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها : أناهيذ . فهوياها جميعا، ثم أتيا منزلها، فاجتمعا عندها فأراداها، فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني . فقالا : لا نسجد . ثم شربا من الخمر، ثم قتلا، ثم سجدا . فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما . فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه [ ص: 518 ] الزهرة وأما هما، فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير من طريق أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود ، وابن عباس قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال : ربنا لا تمهلهم، فأوحى الله إلى الملائكة : أني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو تركتكم لفعلتم أيضا، قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا . فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، يسمونها بيذخت، قال : فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله في هذه الآية، كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بنيآدم فحاكمت إليهما امرأة، فخافا لها، ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين [ ص: 519 ] ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور عن خصيف قال : كنت مع مجاهد فمر بنا رجل من قريش، فقال له مجاهد : حدثنا ما سمعت من أبيك . قال : حدثني أبي أن الملائكة حين جعلوا ينظرون إلى أعمال بني آدم وما يركبون من المعاصي الخبيثة، وليس يستر الناس من الملائكة شيء فجعل بعضهم يقول لبعض : انظروا إلى بني آدم كيف يعملون كذا وكذا! ما أجرأهم على الله يعيبونهم بذلك، فقال الله لهم : لقد سمعت الذي تقولون في بني آدم، فاختاروا منكم ملكين أهبطهما إلى الأرض وأجعل فيهما شهوة بني آدم، فاختاروا هاروت وماروت فقالوا : يا رب ليس فينا مثلهما، فأهبطا إلى الأرض وجعلت فيهما شهوة بني آدم، ومثلت لهما الزهرة في صورة امرأة، فلما نظرا إليها لم يتمالكا أن تناولا منها ما الله أعلم به، وأخذت الشهوة بأسماعهما وأبصارهما، فلما أرادا أن يطيرا إلى السماء لم يستطيعا، فأتاهما ملك فقال : إنكما قد فعلتما ما فعلتما، فاختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقال أحدهما للآخر : ماذا ترى؟ قال : أرى أن أعذب في الدنيا، ثم أعذب، أحب إلي من أن أعذب ساعة واحدة في الآخرة . فهما معلقان منكسان في السلاسل وجعلا فتنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون بالخطايا قالوا : يا رب هؤلاء بنو [ ص: 520 ] آدم الذي خلقت بيدك وأسجدت له ملائكتك وعلمته أسماء كل شيء يعملون بالخطايا، قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أنهما لا يشركا بالله شيئا، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . فعرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها بيذخت فلما أبصراها أراداها قالت : لا إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم، فقالا : ما كنا نشرك بالله شيئا فقال أحدهما للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر . فشربا حتى ثملا، فدخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقعا فيه، أفرج الله السماء لملائكته فقالوا : سبحانك، أنت أعلم، فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا في " ذم الدنيا "، والبيهقي في " شعب الإيمان " عن [ ص: 521 ] أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب في " رواة مالك " عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال أخي عيسى : معاشر الحواريين احذروا الدنيا، لا تسحركم، هي والله أشد سحرا من هاروت وماروت، واعلموا أن الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، وأن لكل واحدة منهما بنين، فكونوا من أبناء الآخرة دون بني الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا الحساب ولا عمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " عن عبد الله بن بسر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الربيع قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء : أي رب هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال [ ص: 522 ] الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم : إنهم في غيب . فلم يعذروهم، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتي، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل بهما شهوات بني آدم، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها الذي هي عليه، فأخرجت لهما صنما فقالت : هذا أعبده، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فصبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث، إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثه [ ص: 523 ] شرب الخمر، فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها، فمر بهما إنسان وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه، فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا : أما عذاب الدنيا فينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن هاروت وماروت أهبطا إلى الأرض، فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر، فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في [ ص: 524 ] السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه، والبيهقي في " سننه " عن عائشة أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، قالت : كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز، فشكوت إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك، فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت : لا، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا : فعلت ؟ فقلت : نعم، فقالا : هل رأيت شيئا ؟ قلت : لم أر شيئا، فقالا : لم تفعلي، ارجعي إلى بلدك ولا تكفري، فأبيت، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، ثم ائتي فذهبت فاقشعر [ ص: 525 ] جلدي وخفت ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت، فقالا : ما رأيت؟ فقلت : لم أر شيئا، فقالا : كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك . فأبيت، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . وذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه، وجئتهما فقلت : قد فعلت . فقالا : فما رأيت؟ فقلت : رأيت فارسا مقنعا خرج مني، فذهب في السماء حتى ما أراه، قالا : صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا، فقالت : بلى لم تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري . فبذرت وقلت : أطلعي فأطلعت، قلت أحقلي، فأحقلت، ثم قلت : أفركي، فأفركت ثم قلت : أيبسي، فأيبست، ثم قلت : اطحني، فأطحنت، ثم قلت اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سقط في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا . فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلهم خاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 526 ] وأخرج ابن المنذر من طريق الأوزاعي عن هارون بن رئاب قال : دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنيت له وسادة وهو متكئ عليها، فقالوا : هذا قد لقي هاروت وماروت، فقلت : هذا ؟! قالوا : نعم، فقلت حدثنا يرحمك الله، فأنشأ يحدثنا فلم يتمالك من الدموع، فقال : كنت غلاما حدثا ولم أدرك أبي، وكانت أمي تعطيني من المال حاجتي، فأنفقه وأفسده وأبذره، ولا تسألني أمي عنه، فلما طال ذلك وكبرت أحببت أن أعلم من أين لأمي هذه الأموال، فقلت لها يوما : من أين لك هذه الأموال؟ فقالت : يا بني، كل وتنعم ولا تسأل عنه، فهو خير لك . فلم أزل أسألها وألح عليها، فأدخلتني بيتا فيه أموال كثيرة فقالت : يا بني هذا كله لك، فكل وتنعم ولا تسأل عنه، فقلت : لا بد أن أعلم من أين هذا، قال : فقالت : يا بني كل وتنعم ولا تسأل فهو خير لك، قال : فألححت عليها، فقالت : إن أباك كان ساحرا، وجمع هذه الأموال من السحر، قال : فأكلت ما أكلت [ ص: 527 ] ومضى ما مضى ثم تفكرت فقلت : يوشك أن يذهب هذا المال ويفنى، فينبغي أن أتعلم السحر، فأجمع كما جمع أبي، فقلت لأمي : من كان خاصة أبي وصديقه من أهل الأرض؟ قالت : فلان . لرجل في كورة أخرى، فتجهزت فأتيته فسلمت عليه، فقال : من الرجل؟ قلت : فلان بن فلان صديقك، قال : نعم، مرحبا، ما جاء بك، فقد ترك أبوك من المال ما لا تحتاج إلى أحد؟ قال : فقلت : جئت لأتعلم السحر، قال : يا بني لا تريده، لا خير فيه، قلت : لا بد من أن أتعلمه، قال : فناشدني وألح علي ألا تريده، فقلت : لا بد من أن أتعلمه . قال : أما إذا أبيت فاذهب، فإذا كان يوم كذا وكذا فوافني ههنا، قال : ففعلت فوافيته . قال : فأخذ يناشدني الله وينهاني ويقول : لا تريد السحر، لا خير فيه، فأبيت عليه، فلما رآني قد أبيت قال : فإني أدخلك موضعا، فإياك أن تذكر الله فيه، قال : [ ص: 528 ] فأدخلني في سرب تحت الأرض، قال : فجعلت أدخل ثلاثمائة وكذا مرقاة، ولا أنكر من ضوء النهار شيئا . قال : فلما بلغت أسفله إذا أنا بهاروت وماروت معلقان بالسلاسل في الهوي . قال : فإذا أعينهما كالترسة ورءوسهما- ذكر شيئا لا أحفظه- ولهما أجنحة، فلما نظرت إليهما قلت : لا إله إلا الله . قال : فضربا بأجنحتهما ضربا شديدا، وصاحا صياحا شديدا ساعة ثم سكتا، ثم قلت أيضا : لا إله إلا الله . ففعلا مثل ذلك، ثم قلت الثالثة : ففعلا مثل ذلك، ثم سكتا وسكت، فنظرا إلي فقالا لي : آدمي ؟ فقلت : نعم، قال : قلت : ما بالكما حين ذكرت الله فعلتما ما فعلتما ؟ قالا : لأن ذلك اسم لم نسمعه من حين خرجنا من تحت العرش .

                                                                                                                                                                                                                                      قالا : من أمة من؟ قلت : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قالا : أوقد بعث؟ قلت : نعم . قالا : اجتمع الناس على رجل واحد أو هم مختلفون؟ قلت : قد اجتمعوا على [ ص: 529 ] رجل واحد، قال : فساءهما ذلك، فقالا : كيف ذات بينهم؟ قلت : سيئ، فسرهما ذلك، فقالا : هل بلغ البنيان بحيرة الطبرية؟ قلت : لا، فساءهما ذلك، فسكتا، فقلت لهما : ما بالكما حين أخبرتكما باجتماع الناس على رجل واحد ساءكما ذلك؟ فقالا : إن الساعة لم تقرب ما دام الناس على رجل واحد . قلت : فما بالكما سركما حين أخبرتكما بفساد ذات البين؟ قالا : لأنا رجونا اقتراب الساعة . قال : قلت : فما بالكما ساءكما حين ذكرت أن البنيان لم يبلغ بحيرة الطبرية قالا : لأن الساعة لا تقوم أبدا حتى يبلغ البنيان بحيرة الطبرية، قال : قلت لهما : أوصياني، قالا : إن قدرت ألا تنام فافعل، فإن الأمر جد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : وأما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم . فاختاروا- فلم يألوا- هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم؟ وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، [ ص: 530 ] ودعا كذا وكذا . فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا، وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك . فلما رجعت، قالا لها – وقضيا لها- : ائتينا . فأتتهما، فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا عرجا فزجرا، فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا : ادع لنا ربك، فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوما وعدا يدعو لهما، [ ص: 531 ] فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا : نعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، نعم، ومع الدنيا سبع مرات مثلها . فأمرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصطفقان بأجنحتهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الزبير بن بكار في " الموفقيات "، وابن مردويه ، والديلمي ، عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسوخ فقال : هم ثلاثة عشر، الفيل والدب والخنزير والقرد والجريث والضب والوطواط والعقرب والدعموص والعنكبوت والأرنب وسهيل والزهرة . فقيل : يا رسول الله، وما سبب مسخهن؟ قال : أما الفيل فكان رجلا جبارا [ ص: 532 ] لوطيا لا يدع رطبا ولا يابسا، وأما الدب فكان مؤنثا يدعو الرجال إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من النصارى الذين سألوا المائدة، فلما نزلت كفروا، وأما القرد فيهود اعتدوا في السبت، وأما الجريث فكان ديوثا يدعو الرجال إلى حليلته، وأما الضب فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه، وأما الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رءوس النخل، وأما العقرب فكان لا يسلم أحد من لسانه، وأما الدعموص فكان نماما يفرق بين الأحبة، وأما العنكبوت فامرأة سحرت زوجها، وأما الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيض، وأما سهيل فكان عشارا باليمن، وأما الزهرة فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني في " الأوسط " بسند ضعيف عن عمر بن الخطاب قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا جبريل، ما لي أراك متغير اللون؟ فقال : ما جئتك حتى أمر الله بمفاتيح النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبريل صف لي النار، وانعت لي جهنم . فقال جبريل : إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها [ ص: 533 ] ألف عام حتى ابيضت ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، لا يضيء شررها، ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب الكفار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعا من حره، والذي بعثك بالحق لو أن خازنا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه، ومن نتن ريحه، والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لارفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي يا جبريل . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وهو يبكي، فقال : تبكي يا جبريل وأنت من الله [ ص: 534 ] بالمكان الذي أنت فيه؟ فقال : وما لي لا أبكي؟ أنا أحق بالبكاء، لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها، وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به إبليس، فقد كان من الملائكة، وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به هاروت وماروت . فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل، فما زالا يبكيان حتى نوديا أن : يا جبريل ويا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصياه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية