الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وقول ابن عباس : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى أن لا بيت لها عليه ، ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها .

وقول سهل : فكان ابنها يدعى إلى أمه ، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها .

وقوله : ( مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ) .

وقال الزهري ، عن سهل بن سعد : ( فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : لا يجتمعان أبدا ) . وقول الزوج : ( يا رسول الله مالي ؟ قال " لا مال لك ؛ إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها ) . فتضمنت هذه الجملة عشرة أحكام .

[ ص: 349 ] الحكم الأول : التفريق بين المتلاعنين ، وفي ذلك خمسة مذاهب .

أحدها : أن الفرقة تحصل بمجرد القذف ، هذا قول أبي عبيد ، والجمهور خالفوه في ذلك ، ثم اختلفوا ، فقال جابر بن زيد : وعثمان البتي ومحمد بن أبي صفرة وطائفة من فقهاء البصرة : لا يقع باللعان فرقة ألبتة ، وقال ابن أبي صفرة : اللعان لا يقطع العصمة ، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان ، بل هو أنشأ طلاقها ، ونزه نفسه أن يمسك من قد اعترف بأنها زنت ، أو أن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فعله سنة ، ونازع هؤلاء جمهور العلماء وقالوا : اللعان يوجب الفرقة ، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب .

أحدها : أنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده ، وإن لم تلتعن المرأة ، وهذا القول مما تفرد به الشافعي ، واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول ، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق . المذهب الثاني : أنها لا تحصل إلا بلعانهما جميعا ، فإذا تم لعانهما وقعت الفرقة ، ولا يعتبر تفريق الحاكم ، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ، اختارها أبو بكر ، وقول مالك وأهل الظاهر ، واحتج لهذا القول بأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده ، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما ، فالقول بوقوع الفرقة قبله مخالف لمدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة ، فإنه إما أيمان على زناها وإما شهادة به ، وكلاهما لا يقتضي فرقة ، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمام لعانهما لمصلحة ظاهرة ، وهي أن الله سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة ، وجعل كلا منهما سكنا للآخر ، وقد زال هذا بالقذف ، وأقامها مقام الخزي والعار والفضيحة ، فإنه إن كان كاذبا فقد فضحها وبهتها ورماها بالداء العضال ، ونكس رأسها ورءوس قومها ، وهتكها على رءوس الأشهاد . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وعرضته للفضيحة والخزي والعار بكونه زوج بغي [ ص: 350 ] وتعليق ولد غيره عليه ، فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوب بالنكاح ، فكان من محاسن شريعة الإسلام التفريق بينهما والتحريم المؤبد على ما سنذكره ، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتب على بعض لعان الزوج ، قالوا : ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين ، فلم يثبت بأيمان أحدهما ، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف .

المذهب الثالث : أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم ، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد ، وهي ظاهر كلام الخرقي ، فإنه قال : ومتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا . واحتج أصحاب هذا القول بقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله ، واحتجوا بأن عويمرا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا حجة من وجهين :

أحدهما : أنه يقتضي إمكان إمساكها .

والثاني : وقوع الطلاق ، ولو حصلت الفرقة باللعان وحده لما ثبت واحد من الأمرين ، وفي حديث سهل بن سعد أنه طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود .

قال الموقعون للفرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم : اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد ، كما سنذكره ، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع ، قالوا : ولأن الفرقة لو وقعت على تفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان ، كالتفريق بالعيب والإعسار ، قالوا : وقوله : " فرق النبي صلى الله عليه وسلم" يحتمل أمورا ثلاثة ؛ أحدها : إنشاء الفرقة . والثاني : الإعلام بها . والثالث : إلزامه بموجبها من الفرقة الحسية .

وأما قوله : كذبت عليها إن أمسكتها ، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد [ ص: 351 ] اللعان مأذون فيه شرعا ، بل هو بادر إلى فراقها ، وإن كان الأمر صائرا إلى ما بادر إليه ، وأما طلاقه ثلاثة فما زاد الفرقة الواقعة إلا تأكيدا ، فإنها حرمت عليه تحريما مؤبدا ، فالطلاق تأكيد لهذا التحريم ، وكأنه قال : لا تحل لي بعد هذا .

وأما إنفاذ الطلاق عليه فتقرير لموجبه من التحريم ، فإنها إذا لم تحل له باللعان أبدا كان الطلاق الثلاث تأكيدا للتحريم الواقع باللعان ، فهذا معنى إنفاذه ، فلما لم ينكره عليه وأقره على التكلم به وعلى موجبه جعل هذا إنفاذا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهل لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : وقع طلاقك ، وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم للطلاق ، فظن ذلك تنفيذا ، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية