الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الحكم الثاني : التعريف ، فينبغي للملتقط أن يعرف اللقطة ، ويعرفها . أما المعرفة ، فيعلم عفاصها ، وهو الوعاء من جلد وخرقة ، وغيرهما ، ووكاءها ، وهو الخيط الذي تشد به ، وجنسها ، أذهب أم غيره ؟ ونوعها ، أهروية ، أم غيرها ؟ وقدرها ، بوزن أو عدد وإنما يعرف هذه الأمور لئلا تختلط بماله ، ويستدل بها على صدق طالبها ، ويستحب تقييدها بالكتابة .

                                                                                                                                                                        وأما التعريف ، ففيه مسائل . إحداها : يجب تعريف اللقطة سنة ، وليس ذلك بمعنى استيعاب السنة ، بل لا يعرف في الليل ، ولا يستوعب الأيام أيضا ، بل على المعتاد ، فيعرف في الابتداء في كل يوم مرتين طرفي النهار ، ثم في كل يوم مرة ، ثم في كل أسبوع مرتين أو مرة ، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار للأول . وفي وجوب المبادرة بالتعريف على الفور وجهان . الأصح الذي يقتضيه كلام الجمهور : لا يجب ، بل المعتبر تعريف سنة متى كان . وهل تكفي سنة مفرقة بأن يفرق شهرين مثلا ، ويترك شهرين ، وهكذا ؟ فيه وجهان . أحدهما : لا ، وبه قطع الإمام ، لأنه لا تظهر فائدة التعريف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 408 ] فعلى هذا ، إذا قطع مدة ، وجب الاستئناف . والثاني وبه قطع العراقيون ، والروياني : نعم .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثاني أصح ، ولم يقطع به العراقيون بل صححوه ، لأنه عرف سنة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية : ليصف الملتقط بعض أوصاف اللقطة ، فإنه أقرب إلى الظفر بالمالك . وهل هو شرط ، أم مستحب ؟ وجهان . أصحهما : مستحب . فإن شرطناه ، فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول : من ضاع منه دراهم ؟ قال الإمام : عندي أنه لا يكفي ، ولكن يتعرض للعفاص ، والوكاء ، ومكان الالتقاط وزمنه ، ولا يستوعب الصفات ، ولا يبالغ فيها لئلا يعتمدها الكاذب . فإن بالغ ، ففي مصيره ضامنا وجهان ، لأنه لا يلزمه الدفع إلا ببينة ، لكن قد يرفعه إلى حاكم يلزمه الدفع بالوصف .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الضمان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إن تبرع الملتقط بالتعريف ، أو بذل مؤنته ، فذاك ، وإلا ، فإن أخذها للحفظ أبدا ، فإن قلنا : لا يجب التعريف والحالة هذه ، فهو متبرع إن عرف . وإن قلنا : يجب ، فليس عليه مؤنته ، بل يرفع الأمر إلى القاضي ليبذل أجرته من بيت المال ، أو يقترض على المالك ، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال . وإن أخذها للتملك ، واتصل الأمر بالتملك ، فمؤنة التعريف على الملتقط قطعا . وإن ظهر مالكها ، فهل هي على الملتقط لقصده التملك ، أم على المالك لعود الفائدة إليه ؟ فيه وجهان . أصحهما : أولهما . ولو قصد الأمانة أولا ، ثم قصد التملك ، ففيه الوجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 409 ] الرابعة : ما ذكرناه من وجوب التعريف ، هو فيما إذا قصد التملك ، أما إذا قصد الحفظ أبدا ، ففي وجوبه وجهان . أصحهما عند الإمام والغزالي : وجوبه ، لئلا يكون كتمانا مفوتا للحق على صاحبه . والثاني وبه قطع الأكثرون : لا يجب ، قالوا : لأن التعريف إنما يجب لتخصيص شرط التملك .

                                                                                                                                                                        قلت : الأول أقوى ، وهو المختار . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الخامسة : ليكن التعريف في الأسواق ومجامع الناس ، وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات ، ولا يعرف في المساجد ، كما لا تطلب اللقطة فيها ، قال الشاشي في " المعتمد " : إلا أن الأصح جواز التعريف في المسجد الحرام ، بخلاف سائر المساجد . ثم إذا التقط في بلدة ، أو قرية ، فلا بد من التعريف فيها ، وليكن أكثر تعريفه في البقعة التي وجد فيها ، لأن طلب الشيء في موضع ضياعه أكثر . فإن حضره سفر ، فوض التعريف إلى غيره ، ولا يسافر بها . وإن التقط في الصحراء ، فعن أبي إسحاق : أنه إن اجتازت به قافلة ، تبعهم وعرف ، وإلا ، فلا فائدة في التعريف في المواضع الخالية ، ولكن يعرف في البلدة التي يقصدها قربت أم بعدت . وإن بدا له الرجوع ، أو قصد بلدة أخرى ، عرف فيها ، ولا يكلف أن يغير قصده ، ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع ، حكاه الإمام ، وتابعه الغزالي . ولكن ذكر المتولي وغيره : أنه يعرف في أقرب البلاد إليه ، وهذا إن أراد به الأفضل فذاك ، وإلا ، فيحصل في المسألة الوجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : أنه لا يكلف العدول . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 410 ] فرع

                                                                                                                                                                        ليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا بإذن الحاكم ، فإن فعل ، ضمن ، ذكره ابن كج ، وغيره .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يشترط كون المعرف عاقلا غير مشهور بالخلاعة والمجون ، وإلا ، فلا يعتمد قوله ، ولا تحصل فائدة التعريف .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إنما يجب تعريف اللقطة إذا جمعت وصفين ، أحدهما : كون الملتقط كثيرا . فإن كان قليلا ، نظر ، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة الحنطة ، والزبيبة ، فلا تعريف ، ولواجده الاستبداد به . وإن كان متمولا مع قلته ، وجب تعريفه ، وفي قدر تعريفه وجهان . أصحهما عند العراقيين :

                                                                                                                                                                        [ سنة ] كالكثير . وأشبههما باختيار معظم الأصحاب : لا يجب سنة . فعلى هذا أوجه : أحدها : يكفي مرة . والثاني : ثلاثة أيام . وأصحها : مدة يظن في مثلها طلب فاقده له ، فإذا غلب على الظن إعراضه ، سقط ، ويختلف ذلك باختلاف المال ، قال الروياني : فدانق الفضة يعرف في الحال ، ودانق الذهب يعرف يوما ، أو يومين ، أو ثلاثة . وأما الفرق بين القليل والمتمول والكثير ، ففيه أوجه . أصحها : لا يتقدر ، بل ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه ، ولا يطول طلبه له غالبا ، فقليل ، قاله الشيخ أبو محمد ، وغيره ، وصححه [ ص: 411 ] الغزالي ، والمتولي . والثاني : القليل : ما دون نصاب السرقة . والثالث : الدينار قليل . والرابع : ما دون الدرهم قليل ، والدرهم كثير .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال المتولي : يحل التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك ، أو كان قدرا لا يشق عليه أن يلتقط ، وإن كان يلتقط بنفسه لو اطلع عليه ، وإلا ، فلا يحل .

                                                                                                                                                                        الوصف الثاني : أن يكون شيئا لا يفسد . أما ما يفسد ، فضربان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن لا يمكن إبقاؤه كالهريسة ، والرطب الذي لا يتتمر ، والبقول . فإن وجده في برية ، فهو بالخيار بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه ، وبين أن يتملكه في الحال فيأكله ويغرم قيمته . وإن وجده في بلدة ، أو قرية ، فطريقان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : على قولين . أحدهما : ليس له الأكل ، بل يبيعه ويأخذ ثمنه لمالكه ، لأن البيع متيسر في العمران . والثاني وهو المشهور : أنه كما لو وجد في برية . والطريق الثاني : القطع بالمشهور . فإذا لم نجوز الأكل ، فأخذ للأكل ، كان غاصبا . وإذا جوزناه فأكل ، ففي وجوب التعريف بعده وجهان . أصحهما : الوجوب إن كان في البلد ، كما أنه إذا باع يعرف . وإن كان في الصحراء ، قال الإمام : فالظاهر أنه لا يجب ، لأنه لا فائدة فيه . وهل يجب إفراز القيمة المغرومة من ماله ؟ وجهان . ويقال : قولان أصحهما : لا ، لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه ، وإذا أفرز [ كان المفرز ] أمانة . والثاني : يجب احتياطا لصاحب المال ليقدم بالمفرز لو أفلس الملتقط . وعلى هذا ، فالطريق أنه يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال . فإن لم يجد حاكما ، فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن يستنيب عنه ؟ فيه احتمال [ ص: 412 ] عند الإمام . وذكر الإمام ، والغزالي ، أنه إذا أفرزها ، لم تصر ملكا لصاحب المال ، بل هو أولى بتملكها . ولو كان كما قالا ، لم يسقط حقه بهلاك المفرز . وقد نصوا على السقوط ، ونصوا أيضا على أنه لو مضت مدة التعريف ، فله أن يتملك المفرز كما يتملك نفس اللقطة ، وكما يتملك الثمن إذا باع الطعام ، وهذا يقتضي صيرورة المفرز ملكا لصاحب اللقطة . ولو اختلفت قيمة يومي الأخذ والأكل ، ففي بعض الشروح أنه إن أخذ للأكل اعتبرت قيمة يوم الأخذ . وإن أخذ التعريف ، اعتبرت قيمة يوم الأكل . وإذا اختار البيع ، ففي الحاجة إلى إذن الحاكم ما سبق في بيع الشاة . وإذا باع أو أكل ، عرف المبيع والمأكول باتفاق الأصحاب ، لا الثمن والقيمة ، سواء أفرزها ، أم لا .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : ما يمكن إبقاؤه بالمعالجة والتجفيف . فإن كان الحظ لصاحبه في بيعه رطبا ، بيع ، وإلا ، فإن تبرع الملتقط بالتجفيف فذاك ، وإلا ، بيع بعضه وأنفق على تجفيف الباقي .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية