الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإن الله العادل الحكيم قد استثنى من المشركين من لهم عهود راعوها حق رعايتها فقال: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .

                                                          الاستثناء في قوله تعالى: إلا الذين عاهدتم من المشركين قال الزمخشري : الاستثناء من فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وأرى أن الاستثناء من الذين تبرأ الله تعالى من عهدهم ونبذه إليهم في قوله تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فكان الاستثناء من هؤلاء أي أن الله بريء من عهد هؤلاء; لأنهم خاضوا في عهدهم ونقضوه، وقد رأيت أنهم بادروا بالنقض عندما أخبرهم علي - كرم الله وجهه - أنه لا يدخل البيت الحرام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ... فبادروا بنقض عهودهم، وقالوا: ليس بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن بالرماح والضرب بالسيوف.

                                                          أما الذين وفوا بعهودهم ولم ينقضوا شيئا منها، ولم يظاهروا عليكم أحدا فعهدهم باق مستمر، وليس الكفر وحده; فقد كان التعاقد وهم كفار وهذا قوله تعالى: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا والتعبير بـ(ثم) للدلالة على دوام وفائهم، وأنهم مع كونهم عرضة للنكث والنقض كإخوانهم المشركين ضبطوا أنفسهم ولم ينكثوا في عهدهم، ولم ينقصوا المسلمين - مع بغضهم لأهل الإيمان - شيئا من شروط العهد، بل وفوا به حق الوفاء، والوفاء جدير بالوفاء من أهل الإيمان كما قال تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا

                                                          وكما وصفهم الله تعالى بأنهم لم ينقصوكم شيئا مما عاهدوا عليه - ذكر وصفا دالا على الوفاء والمبالغة فيه، فقال تعالى: ولم يظاهروا عليكم أحدا أي: لم يعاونوا أحدا من أعدائكم بأن يكونوا في ظهره يدفعونه إلى اللجاجة في عهدكم كما فعل بنو النضير وقريظة، وغيرهم من أعداء [ ص: 3229 ] الله الذين عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ظاهروا المشركين، وعاونوهم، وأظهروا عورات المؤمنين.

                                                          وهناك في قوله تعالى: لم ينقصوكم بالصاد المهملة قراءة أخرى بالضاد المعجمة ، أي: لم ينقضوكم شيئا من النقض، ولو في جزئية من جزئيات العهد أي وفوا وفاء كاملا لا نقض فيه.

                                                          وقال تعالى: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم إن وفوا ولم ينقصوا ولم يظاهروا عليكم فأوفوا لهم، وأتموا عهدهم إلى مدتهم.

                                                          وأضاف العهد إليهم باعتبار أن متعة الانتفاع بالعهد لهم، وأضاف المدة إليهم؛ لأنهم الذين ينتفعون بهذه المدة كما انتفعوا بالعهد ذاته، ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: إن الله يحب المتقين أي الذين يتقون الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب النار وقاية، ومن التقوى الوفاء بالعهد، فهي تعليل للاستثناء، وتمام العهد أن الوفاء في العهد من تمام التقوى، ومن فضل الأقوياء.

                                                          هذا شأن الذين وفوا بعهودهم، أما الذين لم يوفوا بعهودهم فإنهم يسيحون أربعة أشهر يحرم فيها القتال، وبعد ذلك يكون القتال.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية