الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم ذكر من صفات الله التي يثبتها السلف دون غيرهم عدة وبدأ بصفة الوجه له تعالى فقال : ( ( كوجهه ) ) أيمن الصفات الثابتة له تعالى صفة الوجه إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد ، وهذا الذي نقل الخطابي وغيره أنه مذهب السلف والأئمة الأربعة ، وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي [ ص: 226 ] الكيفية والتشبيه عنها محتجين بأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فإذا كان إثبات الذات وجودا لا إثبات تكييف ، فكذلك إثبات الصفات ، وقالوا : إنا لا نلتفت في ذلك إلى تأويل لسنا منه على ثقة ويقين ، لاحتمال أن يكون المراد غيره لأنه مأخوذ بالظن والتخمين ، لا بالقطع واليقين ، فلا نبني اعتقادنا عليه ، ولا نرجع عن النص الثابت إليه

فإن هذا عند السلف مذموم وناهج هذا المنهج معيب ملوم ، قال بعض المحققين : صفات الرب تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت ، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد ، فالمؤمن مبصر بها من وجه أعمى من وجه ، مبصر من حيث الإثبات والوجود ، أعمى من حيث التكييف والتحديد ، قال الله تعالى في محكم كتابه ويبقى وجه ربك - فأينما تولوا فثم وجه الله - إنما نطعمكم لوجه الله - كل شيء هالك إلا وجهه وفي الحديث : من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، وفي آخر : أعوذ بوجهك الكريم ، والأحاديث كثيرة شهيرة .

قال أهل التأويل : المراد بالوجه الذات المقدسة ، فأما كونه صفة الله فلا ، وهو قول المعتزلة ، وجمهور المتكلمين ، وزعموا أنه يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : الوجه عبارة عنه عز وجل ، كما قال ( ويبقى وجه ربك ) .

وقال ابن فورك : قد تذكر صفة الشيء ويراد بها الموصوف توسعا كما يقول القائل رأيت علم فلان ، ونظرت إلى علمه ، والمراد نظرت إلى العالم . وقال القرطبي : قال الحذاق : الوجه راجع إلى الوجود والعبارة عنه بالوجوه من مجاز الكلام ، إذا كان الوجه أظهر الأعضاء في المشاهدة .

ومذهب السلف الأول ، والرعيل الذي عليه المعول أن الوجه صفة ثابتة لله تعالى ، ورد بها السمع فتتلقى بالقبول . ويبطل مذهب أهل التأويل ما قاله الإمام الحافظ البيهقي ، والخطابي في قوله تعالى ويبقى وجه ربك فأضاف الوجه إلى الذات ، وأضاف النعت إلى الوجه ، فقال ( ذو الجلال ) ولو كان ذكر الوجه ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال ، فلما قال ذو الجلال علمنا أنه نعت للوجه صفة للذات .

وقال علماؤنا : قد ثبت في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أن تسمية الوجه في أي محل وقع من [ ص: 227 ] الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا ذات ، فأما الحيوان فذلك مشهور حقيقة لا يمكن دفعه ، وأما في مقامات المجاز فكذلك أيضا ، لأنه يقال : فلان وجه القوم لا يراد به ذات القوم ، إذ ذوات القوم غيره قطعا ، ويقال : هذا وجه الثوب لما هو أجوده ، ويقال : هذا وجه الرأي أي أصحه وأقومه ، ويقال : أتيت بالخبر على وجهه أي حقيقته - إلى غير ذلك مما يقال فيه الوجه .

فإذا كان هذا هو المستقر في اللغة ، وجب أن يحمل الوجه في حق الباري على وجه يليق به ، وهو أن يكون صفة زائدة على تسمية قولنا ذات

فإن قيل : يلزم أن يكون عضوا وجارحة ذات كمية وكيفية وهو باطل ، فالجواب هذا لا يلزم لأن ما توهمه المعترض ، إنما هو بالإضافة إلى ذات الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ، ولكن من جهة نسبة الوجه إلى جملة الذات ، فيما ثبت لها من الماهية المركبة ، وذلك أمر مدرك بالحس في جملة الذات ، فكانت الصفات الحادثة مساوية للذات المحدثة ، بطريق كونها منها ، ومنتسبة إليها نسبة الجزء من الكل ، فأما الوجه ( المضاف - 1 ) للباري تعالى ينسب إليه نسبة الذات إليه ، وقد ثبت أن الذات في حق الباري ، لا توصف بأنهم جسم مركب تدخله الكمية وتتسلط عليها الكيفية ، ولا نعلم لها ماهية ، فصفته تعالى التي هي الوجه كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ، ولا يوقف لها على كيفية ، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية ، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساما ، والله تعالى منزه عن ذلك

ولو جاز هذا الاعتراض في الوجه لقيل بمثله في السمع والبصر والقدرة والعلم ونحوها ، فإن العلم في حق المخلوق في الشاهد عرض قائم بقلب يثبت بطريق ضرورة أو اكتساب مشارك في إثبات ماهية أو كمية أو كيفية .

قال أبو الحسن الأشعري : لله تعالى وجه بلا كيف كما قال : ( ويبقى وجه ربك ) ، قال : ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل ، وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني : فإن قال قائل : فما الدليل على أن لله تعالى وجها ؟ قيل له : قوله تعالى ويبقى وجه ربك وقال الإمام أبو حنيفة : وله تعالى يد ووجه ونفس .

فما ذكر [ ص: 228 ] الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ، وقد روى مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه حديث : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

قال الإمام النووي : معناه أنه تعالى لا ينام ، وأنه مستحيل في حقه النوم ، فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وسبحات وجهه نوره وبهاؤه وجلاله ، بضم السين المهملة والباء الموحدة ، وقيل سبحات الوجه محاسنه ، لأنه يقال سبحان الله عند رؤيتها ، وأصل الحجاب في اللغة المنع والستر ، والمراد به هنا المانع من رؤيته ، وسمي ذلك المانع نورا لأنه يمنع في العادة من الإدراك كشعاع الشمس .

قال : والمراد بالوجه الذات ، والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات ، لأن بصره تعالى محيط بجميع الكائنات إلخ كلامه ، وقوله : المراد بالوجه الذات يعني على طريقة الخلف ، وقالوا في قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله أي فثم رضاه وثوابه ، وقالوا في قوله إنما نطعمكم لوجه الله أي لرضاه وطلب ثوابه ، وقيل فثم الله والوجه صلة .

وقيل : المراد بالوجه في قوله تعالى فثم وجه الله الجهة التي وجهنا الله إليها أي القبلة ، والحق الحقيقي مذهب سلف الأمة وما عليه الأئمة من إثبات الوجه ونحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية