الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له .

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه من على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه ، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير ، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها ، وقال بعضهم : هي رؤيا منام . وقال بعضهم : أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك . ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبيا ، و " أن " في قوله أن اقذفيه هي المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه . والتعبير بالموصول في قوله ما يوحى للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 78 ] ، وقوله فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 10 ] ، والتابوت : الصندوق . واليم : البحر . والساحل : شاطئ البحر . والبحر المذكور : نيل مصر . والقذف : الإلقاء ، والوضع ، ومنه قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 26 ] ومعنى اقذفيه في التابوت أي ضعيه في الصندوق . [ ص: 9 ] والضمير في قوله أن اقذفيه راجع إلى موسى بلا خلاف . وأما الضمير في قوله فاقذفيه في اليم وقوله فليلقه فقيل : راجع إلى التابوت . والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت ، لأن تفريق الضمائر غير حسن ، وقوله يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 39 ] هو فرعون ، وصيغة الأمر في قوله فليلقه اليم بالساحل فيها وجهان معروفان عند العلماء :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر ، قال أبو حيان في البحر المحيط : فليلقه أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله فليلقه أريد بها الأمر الكوني القدري ، كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 82 ] فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله أمره بذلك كونا وقدرا . وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا [ 19 75 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " القصص " : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 7 - 8 ] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر ، وألقاه اليم بالساحل ، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 10 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة يأخذه مجزوم في جواب الطلب الذي هو فليلقه اليم بالساحل وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح . وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ . والعلم عند الله تعالى . وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت ، وحشته قطنا محلوجا . وقيل : إن التابوت المذكور من شجر الجميز ، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون ، قيل : واسمه حزقيل . وكانت عقدت في التابوت حبلا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل . فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم ، والهم ما ذكره الله تعالى في قوله وأصبح فؤاد أم موسى فارغا الآية [ 28 10 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 10 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 37 ] أشار إلى ما يشبهه في قوله : ولقد مننا على موسى وهارون الآية [ 37 114 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية