الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما من نذر نحر نفسه أو ابنه - : فروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت القاسم بن محمد بن أبي بكر يقول : سئل ابن عباس عمن نذر أن ينحر ابنه ؟ فقال : لا ينحر ابنه ، وليكفر عن يمينه ، فقيل لابن عباس : كيف تكون في طاعة الشيطان كفارة ؟ فقال ابن عباس { الذين يظاهرون } ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا حجة لابن عباس في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                          أول ذلك - : أنه لم يجعل هو في طاعة الشيطان التي شبهها بطاعته في الظهار ، الكفارة التي في الظهار ويكفي هذا - ثم لو طرد هذا القول لوجبت في كل معصية كفارة يمين - وهذا لا يقوله هو ولا غيره .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عنه فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام ، أنها لا تحرم بذلك ، ولم يجعل فيه كفارة - وهذا أصح أقواله - : وقد روينا عنه غير هذا من طريق ابن جريج عن عطاء ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال ابن عباس { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } { وفديناه بذبح عظيم } فأمره بكبش ، قال عطاء : يذبح الكبش بمكة ، قال ابن جريج : فقلت لعطاء : نذر لينحرن فرسه أو بغلته ؟ فقال : جزور أو بقرة ؟ فقلت له : أمره ابن عباس بكبش في نفسه ، وتقول في الدابة جزور ؟ فأبى عطاء إلا ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وليس في هذه الآية أيضا حجة لابن عباس ; لأن إبراهيم عليه السلام لم ينذر ذبح ولده ، لكن أمره الله تعالى بذبحه فكان فرضا عليه أن يذبحه ، وكان نذر الناذر نحر ولده أو نفسه معصية من كبار المعاصي ، ولا يجوز أن تشبه الكبائر بالطاعات . [ ص: 262 ] وأيضا - فإننا لا ندري ما كان ذلك الذبح الذي فدي به إسماعيل عليه السلام ، فبطل هذا التشبيه - وروينا عنه قولا ثالثا أيضا - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه قال في رجل نذر أن ينحر نفسه ، قال : ليهد مائة ناقة . ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت سالم بن أبي الجعد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : إني كنت أسيرا في أرض العدو فنذرت إن نجاني الله أن أفعل كذا ، وأن أنحر نفسي ، وإني قد فعلت ذلك ؟ قال وفي عنقه قد فأقبل ابن عباس على امرأة سألته وغفل عن الرجل ، فانطلق لينحر نفسه ، فسأل ابن عباس عنه ؟ فقيل له : ذهب لينحر نفسه ، فقال علي بالرجل ؟ فجاء ، فقال : لما أعرضت عني انطلقت أنحر نفسي ؟ فقال له ابن عباس : لو فعلت ما زلت في نار جهنم ، انظر ديتك فاجعلها في بدن فأهدها في كل عام شيئا ، ولولا أنك شددت على نفسك لرجوت أن يجزيك كبش - وهذه آثار في غاية الصحة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق قتادة عن ابن عباس : أنه أفتى رجلا نذر أن ينحر نفسه ، فقال له : أتجد مائة بدنة ؟ قال : نعم ، قال : فانحرها ، فلما ولى الرجل قال ابن عباس : أما لو أمرته بكبش لأجزأ عنه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار : أن عكرمة أخبره أن رجلا أتى إلى ابن عباس فقال له : لقد أذنبت ذنبا لئن أمرتني لأنحرن الساعة نفسي والله لا أخبركه فقال له ابن عباس : بلى ، لعلي أن أخبرك بكفارة ، قال فأبى ، فأمره بمائة ناقة - وهذا أيضا إسناد صحيح .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق ساقطة فيها ابن حبيب الأندلسي : أن عليا ، وابن عباس ، وابن عمر أفتوا فيمن نذر أن يهدي ابنه ؟ أن يهدي مائة من الإبل قال ابن حبيب : وحدثني ابن المغيرة عن الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر أنهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك ؟ فقالوا : ينحر بدنة ، فإن لم يجد فكبشا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذه أقوال عن ابن عباس صحاح ليس بعضها أولى من بعض ولا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس وغيره لم يعصم من [ ص: 263 ] الخطأ ، ومن قلدهم فقد خالف أمر الله تعالى في أن لا نتبع ما أنزل إلينا ، ولكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم فضائل ومشاهد تعفو عن كل تقصير وليس ذلك لغيرهم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذرا لا ينبغي له ذكر ; لأنه معصية ؟ فأمره أن يوفيه - ثم سأل عكرمة ؟ فنهاه عن الوفاء به ، وأمره بكفارة يمين فرجع إلى سعيد بن المسيب فأخبره ؟ فقال سعيد : لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره ، فرجع إلى عكرمة فأخبره ؟ فقال له عكرمة : إذ بلغتني فبلغه ، أما هو فقد ضربت الأمراء ظهره ، وأوقفوه في تبان شعر ، وسله عن نذرك أطاعة لله هو أم معصية ؟ فإن قال : معصية لله ، فقد أمرك بالمعصية ؟ وإن قال هو طاعة لله ، فقد كذب على الله ، إذ زعم أن معصية الله طاعة له ؟ قال أبو محمد : وروينا من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن رشدين بن كريب مولى ابن عباس { أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني نذرت أن أنحر نفسي ؟ فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهدي مائة ناقة ، وأن يجعلها في ثلاث سنين ، قال : فإنك لا تجد من يأخذه منك بعد أن سأله : ألك مال ؟ فقال : نعم } .

                                                                                                                                                                                          وقد خالف الحنفيون ، والمالكيون ما روي عن الصحابة في هذا ، فلا ما يوهمون من اتباع الصحابة التزموا ، ولا النص المفترض عليهم اتبعوا ، ولا بالمرسل أخذوا ، وهم يقولون : إن المرسل والمسند سواء - : وأما أبو حنيفة فقال : من نذر نحر ولده ، أو نحر نفسه ، أو نحر غلامه ، أو نحر والده ، أو نحر أجنبي ، أو إهداءه ، أو إهداء ولده ، أو إهداء والده - فلا شيء عليه في كل ذلك ، إلا في ولده خاصة ، فيلزمه فيه هدي شاة - وهذا من التخليط الذي لا نظير له - ووافقه على كل ذلك محمد بن الحسن ، إلا أنه قال : وعليه في عبده أيضا شاة .

                                                                                                                                                                                          واضطرب قول مالك ، فمرة قال : من حلف فقال : أنا أنحر ابني إن فعلت كذا ، فحنث ، فعليه كفارة يمين - : ومرة قال : إن كان نوى بذلك الهدي فعليه هدي ، وإن كان لم ينو هديا فلا شيء عليه ، لا هدي ولا كفارة .

                                                                                                                                                                                          ومرة قال : إن نذر ذلك عند مقام إبراهيم ، فعليه هدي ، وإن لم يقل عند مقام إبراهيم ، فكفارة يمين . [ ص: 264 ]

                                                                                                                                                                                          وقال ابن القاسم صاحبه : إن نذر أن ينحر أباه ، أو أمه ، إن فعلت كذا وكذا ، فالحكم في ذلك كالحكم المذكور في الابن أيضا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن نذر ذلك بمنى ، أو بين الصفا والمروة ، فكما لو نذره عند مقام إبراهيم - وهذه أقوال في غاية الفساد وخلاف للسلف .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث بن سعد : من قال : أنا أنحر ابني عند البيت ، فعليه أن يحج ، ويحج بابنه ويهدي هديا .

                                                                                                                                                                                          وقال الحسن بن حي : من قال : أنا أنحر فلانا عند الكعبة ، فإنه يحجه ، أو يعمره ، ويهدي ، إلا أن ينوي أحد ذلك فيلزمه ما نوى فقط - : وهذه أقوال لا برهان عليها ، فلا وجه للاشتغال بها .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو يوسف ، والشافعي ، وأبو سليمان : لا شيء عليه في كل ذلك إلا الاستغفار فقط .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا هو الحق لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه } ولم يأمره في ذلك بكفارة ، ولا هدي { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } .

                                                                                                                                                                                          { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق ابن جريج قال : سمعت سليمان بن موسى يحدث عطاء أن رجلا أتى إلى ابن عمر فقال له : نذرت لأنحرن نفسي ؟ فقال له ابن عمر : أوف ما نذرت ، فقال له الرجل : أفأقتل نفسي ؟ قال له إذن تدخل النار ، قال له : ألبست علي قال : أنت ألبست على نفسك ؟ قال أبو محمد : وبهذا كان يفتي ابن عمر ، صح أن آتيا أتاه فقال : نذرت صوم يوم النحر ؟ فقال له ابن عمر : أمر الله تعالى بوفاء النذر ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص: 265 ] عن صوم يوم النحر . وأن امرأة سألته ؟ فقالت : نذرت أن أمشي حاسرة ؟ فقال : أوفي بنذرك ، واختمري .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا قبل عن ابن عباس : سقوط نذر المعصية جملة وبهذا نقول .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية