الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألب على مناواة الدين ، حين تحققوا أنه في انتشار وظهور فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : يريدون عائد إلى الذين أوتوا الكتاب والإطفاء إبطال الإسراج وإزالة النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر .

والنور الضوء وقد تقدم عند قوله - تعالى : نورا وهدى للناس في سورة الأنعام . والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وصد الناس عن اتباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة . والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمه عليه ، فهذا الكلام مركب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنه صالح لتفكيك التشبيه بأن يشبه الإسلام وحده بالنور ، ويشبه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور ويشبه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أن آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه . والمثال المشهور للتمثيل الصالح لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :


كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه



ولكن التفريق في تمثيلية الآية أشد استقلالا ، بخلاف بيت بشار ، كما يظهر بالتأمل .

[ ص: 172 ] وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أن محاولة إطفائه عبث وأن أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم .

والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله - تعالى - إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوله محاول على فعل وهو يمتنع منه ; لأنهم لما حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلا وهو يأبى أن يفعله .

والاستثناء مفرغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبى مجرى نفي الإرادة ، كأنه قال : ولا يريد الله إلا أن يتم نوره ، ذلك أن فعل أبى ونحوه فيه جانب نفي لأن إباية شيء جحد له ، فقوي جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : يريدون أن يطفئوا نور الله . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه . وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل " كرهت إلا أخاك " .

وجيء بهذا التركيب هنا لشدة مماحكة أهل الكتاب وتصلبهم في دينهم ، ولم يجأ به في سورة الصف إذ قال يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره لأن المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملق .

وذكر صاحب الكشاف عند قوله - تعالى : فشربوا منه إلا قليل منهم في قراءة الأعمش وأبي برفع ( قليل ) في سورة البقرة : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير فشربوا على اعتبار تضمين ( شربوا ) معنى ، فلم يطعموه إلا قليل ، ميلا مع معنى الكلام .

والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلا أن يبقي نوره .

و ( لو ) في ( ولو كره الكافرون ) اتصالية ، وهي تفيد المبالغة بأن ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيا . والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله . وأما مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله - تعالى - حتى يبالغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى .

التالي السابق


الخدمات العلمية