الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الوطن الأصلي ) هو موطن ولادته أو تأهله أو توطنه [ ص: 132 ] ( يبطل بمثله ) إذا لم يبق له بالأول أهل ، فلو بقي لم يبطل بل يتم فيهما ( لا غير و ) يبطل ( وطن الإقامة بمثله و ) بالوطن ( الأصلي و ) بإنشاء ( السفر ) والأصل أن الشيء يبطل بمثله ، وبما فوقه لا بما دونه ولم يذكر وطن السكنى وهو ما نوى فيه أقل من [ ص: 133 ] نصف شهر لعدم فائدته ، وما صوره الزيلعي رده في البحر

التالي السابق


مطلب في الوطن الأصلي ووطن الإقامة

( قوله الوطن الأصلي ) ويسمى بالأهلي ووطن الفطرة والقرار ح عن القهستاني .

( قوله أو تأهله ) أي تزوجه . قال في شرح المنية : ولو تزوج المسافر ببلد ولم ينو الإقامة به فقيل لا يصير مقيما ، وقيل يصير مقيما ; وهو الأوجه ولو كان له أهل ببلدتين فأيتهما دخلها صار مقيما ، فإن ماتت زوجته في إحداهما وبقي له فيها دور وعقار قيل لا يبقى وطنا له إذ المعتبر الأهل دون الدار كما لو تأهل ببلدة واستقرت سكنا له وليس له فيها دار وقيل تبقى . ا هـ .

( قوله أو توطنه ) أي عزم على القرار فيه وعدم الارتحال وإن لم يتأهل ، فلو كان له أبوان ببلد غير مولده وهو بالغ [ ص: 132 ] ولم يتأهل به فليس ذلك وطنا له إلا إذا عزم على القرار فيه وترك الوطن الذي كان له قبله شرح المنية .

( قوله يبطل بمثله ) سواء كان بينهما مسيرة سفر أو لا ، ولا خلاف في ذلك كما في المحيط قهستاني ، وقيد بقوله بمثله لأنه لو انتقل منه قاصدا غيره ثم بدا له أن يتوطن في مكان آخر فمر بالأول أتم لأنه لم يتوطن غيره نهر .

( قوله إذا لم يبق له بالأول أهل ) أي وإن بقي له فيه عقار قال في النهر : ولو نقل أهله ومتاعه وله دور في البلد لا تبقى وطنا له وقيل تبقى كذا في المحيط وغيره .

( قوله بل يتم فيهما ) أي بمجرد الدخول وإن لم ينو إقامة ط .

( قوله ويبطل وطن الإقامة ) يسمى أيضا الوطن المستعار والحادث وهو ما خرج إليه بنية إقامة نصف شهر سواء كان بينه وبين الأصلي مسيرة السفر أو لا ، وهذا رواية ابن سماعة عن محمد وعنه أن المسافة شرط والأول هو المختار عند الأكثرين قهستاني .

( قوله بمثله ) أي سواء كان بينهما مسيرة سفر أو لا قهستاني .

( قوله وبالوطن الأصلي ) كما إذا توطن بمكة نصف شهر ثم تأهل بمنى ، أفاده القهستاني .

( قوله وبإنشاء السفر ) أي منه وكذا من غيره إذا لم يمر فيه عليه قبل سير مدة السفر .

قال في الفتح : إن السفر الناقض لوطن الإقامة ما ليس فيه مرور على وطن الإقامة أو ما يكون المرور فيه به بعد سير مدة السفر ا هـ .

أقول : ويوضح ذلك ما في الكافي والتتارخانية : خراساني قدم بغداد ليقيم بها نصف شهر ومكي قدم الكوفة كذلك ثم خرج كل منهما إلى قصر ابن هبيرة فإنهما يتمان في طريق القصر لأن من بغداد إلى الكوفة أربعة أيام والقصر متوسط بينهما ، فإن أقاما في القصر نصف شهر بطل وطنهما ببغداد والكوفة لأنه مثله ، فإن خرجا بعده من القصر إلى الكوفة يتمان أيضا فإن أقاما بها يوما مثلا ثم خرجا منها إلى بغداد وقصدا المرور بالقصر يتمان إلى القصر وفيه ومنه إلى بغداد لأنه صار وطن إقامة لهما فإذا قصدا الدخول فيه لم يصح سفرهما إذا لم يقصدا مسيرة سفر حتى لو لم يقصدا الدخول فيه قصرا كما لو خرجا من الكوفة لقصدهما مسيرة السفر وإن المكي حين خرج من كوفة قصد بغداد أو الخراساني الكوفة والتقيا بالقصر وخرجا إلى الكوفة ليقيما فيها يوما ثم يرجعا إلى بغداد قصرا إلى الكوفة وكذا إلى بغداد لقصد كل منهما مسيرة سفر أما الخراساني فلأنه ماض على سفره وأما المكي فلأن وطنه بالكوفة انتقض بإنشاء السفر والقصر إذا لم يكن وطنا لهما فقصد المرور به لا يمنع صحة السفر ا هـ وأفاد قوله : وأما المكي إلخ أن إنشاء السفر من وطن الإقامة مبطل له وإن عاد إليه ولذا قال في البدائع لو أقام خراساني بالكوفة نصف شهر ثم خرج منها إلى مكة فقبل أن يسير ثلاثة أيام عاد إلى الكوفة لحاجة فإنه يقصر لأن وطنه قد بطل بالسفر . ا هـ .

والحاصل : أن إنشاء السفر يبطل وطن الإقامة إذا كان منه أما لو أنشأه من غيره فإن لم يكن فيه مرور على وطن الإقامة أو كان ولكن بعد سير ثلاثة أيام فكذلك ، ولو قبله لم يبطل الوطن بل يبطل السفر لأن قيام الوطن مانع من صحته والله أعلم .

( قوله والأصل أن الشيء يبطل بمثله ) كما يبطل الوطن الأصلي بالوطن الأصلي ووطن الإقامة بوطن الإقامة ووطن السكنى بوطن السكنى ، وقوله : وبما فوقه أي كما يبطل وطن الإقامة بالوطن الأصلي وكما يبطل وطن السكنى بالوطن الأصلي وبوطن الإقامة ، وينبغي أن يزيد وبضده كبطلان وطن الإقامة أو السكنى بالسفر فإنه في البحر علل لذلك بقوله لأنه ضده ( قوله لا بما دونه ) كما لم يبطل الوطن الأصلي بوطن الإقامة [ ص: 133 ] ولا بوطن السكنى ولا بإنشاء السفر وكما لم يبطل وطن الإقامة بوطن السكنى ح .

( قوله وما صوره الزيلعي ) حيث قال : رجل خرج من مصره إلى قرية لحاجة ولم يقصد السفر ونوى أن يقيم فيها أقل من خمسة عشر يوما فإنه يتم فيها لأنه مقيم ثم خرج من القرية لا للسفر ثم بدا له أن يسافر قبل أن يدخل مصره وقبل أن يقيم ليلة في موضع آخر فسافر فإنه يقصر ولو مر بتلك القرية ودخلها أتم لأنه لم يوجد ما يبطله مما هو فوقه أو مثله ا هـ ح .

( قوله رده في البحر ) بأن السفر باق لم يوجد ما يبطله وهو مبطل لوطن السكنى على تقدير اعتباره لأن السفر يبطل وطن الإقامة فكيف لا يبطل وطن السكنى ، فقوله لأنه لم يوجد ما يبطله ممنوع . ا هـ .

قال ح : واعترضه شيخنا بأن المبطل لهما سفر مبتدأ منهما . وأما إذا خرج منهما إلى ما دون مدة السفر ثم أنشأ سفرا فإنهما لا يبطلان فإذا مر بهما أتم ا هـ ونقل الخير الرملي مثله عن خط بعضهم وأقره .

قال ح : وهو وجيه فإن من نوى الإقامة بموضع نصف شهر ثم خرج منه لا يريد السفر ثم عاد مريدا سفرا ومر بذلك أتم مع أنه أنشأ سفرا بعد اتخاذ هذا الموضع دار إقامة ، فثبت أن إنشاء السفر لا يبطل وطن الإقامة إلا إذا أنشأ السفر منه فليكن وطن السكنى كذلك فما صوره الزيلعي صحيح ومن تصويره علمت أنه لا بد أن يكون بين الوطن الأصلي وبين وطن السكنى أقل من مدة السفر وكذا بين وطن الإقامة ووطن السكنى . ا هـ .

أقول : قد علمت أن السفر المبطل للوطن لا يختص بالمنشأ منه بل يكون بالمنشأ من غيره إذا لم يكن فيه مرور عليه قبل سير ثلاثة أيام لكن هنا فيه مرور على الوطن قبل سير مدة السفر وقد أيد في الظهيرية قول عامة المشايخ باعتبار وطن السكنى بأن الإمام السرخسي ذكر مسألة تدل عليه . وهي : كوفي خرج إلى القادسية لحاجة وبينهما دون مسيرة السفر ثم خرج منها إلى الحيرة يريد الشام حتى إذا كان قريبا منها بدا له الرجوع إلى القادسية ليحمل ثقله منها ويرتحل إلى الشام ولا يمر بالكوفة أتم حتى يرتحل من القادسية استحسانا لأنها كانت له وطن السكنى ، ولم يظهر له بقصد الحيرة وطن سكنى آخر ما لم يدخلها فيبقى وطنه بالقادسية ولا ينتقض بهذا الخروج كما لو خرج منها لتشييع جنازة ونحوه ا هـ ملخصا .

أقول : ويمكن أن يوفق بين القولين بأن وطن السكنى إن كان اتخذه بعد تحقق السفر لم يعتبر اتفاقا وإلا اعتبر اتفاقا ، فإذا دخل المسافر بلدة ونوى أن يقيم بها يوما مثلا ثم خرج منها ثم رجع إليها قصر فيها كما كان يقصر قبل خروجه ، وعليه يحمل كلام المحققين لقول البحر إنهم قالوا لا فائدة فيه لأنه يبقى فيه مسافرا على حاله فصار وجوده كعدمه ا هـ فقولهم لأنه يبقى فيه مسافرا على حاله ظاهر في أنه كان مسافرا قبل اتخاذه وطنا ، وما قاله عامة المشايخ محمول على ما إذا اتخذه وطنا قبل سفره كما صوره الزيلعي والإمام السرخسي ، هذا ما ظهر لي والله أعلم




الخدمات العلمية