الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة .

وجهات ثبوت النسب أربعة : الفراش ، والاستلحاق ، والبينة ، والقافة ، فالثلاثة الأول متفق عليها ، واتفق المسلمون على أن النكاح يثبت به الفراش ، واختلفوا في التسري فجعله جمهور الأمة موجبا للفراش ، واحتجوا بصريح حديث عائشة الصحيح ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالولد لزمعة ، وصرح بأنه صاحب الفراش ، وجعل ذلك علة للحكم بالولد له ، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة ، فلا يجوز إخلاء الحديث منه وحمله على الحرة التي لم تذكر البتة ، وإنما كان الحكم في غيرها ، فإن هذا يستلزم إلغاء ما اعتبره الشارع وعلق الحكم به صريحا ، وتعطيل محل الحكم الذي كان لأجله وفيه .

ثم لو لم يرد الحديث الصحيح فيه لكان هو مقتضى الميزان الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط ، وهو التسوية بين المتماثلين ، فإن السرية فراش حسا وحقيقة وحكما ، كما أن الحرة كذلك ، وهي تراد لما تراد له الزوجة من الاستمتاع والاستيلاد ، ولم يزل الناس قديما وحديثا يرغبون في السراري لاستيلادهن واستفراشهن ، والزوجة إنما سميت فراشا لمعنى هي والسرية فيه على حد سواء . [ ص: 369 ]

وقال أبو حنيفة : لا تكون الأمة فراشا بأول ولد ولدته من السيد ، فلا يلحقه الولد إلا إذا استلحقه فيلحقه حينئذ بالاستلحاق لا بالفراش ، فما ولدت بعد ذلك لحقه ، إلا أن ينفيه ، فعندهم ولد الأمة لا يلحق السيد بالفراش إلا أن يتقدمه ولد مستلحق ، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بزمعة وأثبت نسبه منه ، ولم يثبت قط أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك غيره ، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا استفصل فيه .

قال منازعوهم : ليس لهذا التفصيل أصل في كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ، ولا تقتضيه قواعد الشرع وأصوله ، قالت الحنفية : ونحن لا ننكر كون الأمة فراشا في الجملة ، ولكنه فراش ضعيف وهي فيه دون الحرة ، فاعتبرنا ما تعتق به بأن تلد منه ولدا فيستلحقه ، فما ولدت بعد ذلك لحق به إلا أن ينفيه ، وأما الولد الأول فلا يلحقه إلا بالاستلحاق ، ولهذا قلتم : إنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا باستلحاق مستأنف ، بخلاف الزوجة ، والفرق بينهما : أن عقد النكاح إنما يراد للوطء والاستفراش ، بخلاف ملك اليمين ، فإن الوطء والاستفراش فيه تابع ، ولهذا يجوز وروده على من يحرم عليه وطؤها بخلاف عقد النكاح .

قالوا : والحديث لا حجة لكم فيه ؛ لأن وطء زمعة لم يثبت ، وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم لعبد أخا ، لأنه استلحقه فألحقه باستلحاقه لا بفراش الأب .

قال الجمهور : إذا كانت الأمة موطوءة فهي فراش حقيقة وحكما ، واعتبار ولادتها السابقة في صيرورتها فراشا اعتبار ما لا دليل على اعتباره شرعا ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره في فراش زمعة ، فاعتباره تحكم .

وقولكم : إن الأمة لا تراد للوطء ، فالكلام في الأمة الموطوءة التي اتخذت سرية وفراشا وجعلت كالزوجة أو أحظى منها لا في أمته التي هي أخته من الرضاع ونحوها . [ ص: 370 ] وقولكم : إن وطء زمعة لم يثبت حتى يلحق به الولد ليس علينا جوابه ، بل جوابه على من حكم بلحوق الولد بزمعة وقال لابنه : هو أخوك .

وقولكم : إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه باطل ، فإن المستلحق إن لم يقر به جميع الورثة لم يلحق بالمقر ، إلا أن يشهد منهم اثنان أنه ولد على فراش الميت ، وعبد لم يكن يقر له جميع الورثة ، فإن سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أخته ، وهي لم تقر به ، ولم تستلحقه ، وحتى لو أقرت به مع أخيها عبد لكان ثبوت النسب بالفراش لا بالاستلحاق ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح عقيب حكمه بإلحاق النسب بأن : ( الولد للفراش ) معللا بذلك منبها على قضية كلية عامة تتناول هذه الواقعة وغيرها .

ثم جواب هذا الاعتراض الباطل المحرم أن ثبوت كون الأمة فراشا بالإقرار من الواطئ أو وارثه كاف في لحوق النسب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه به بقوله : ابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ، كيف وزمعة كان صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابنته تحته ، فكيف لا يثبت عنده الفراش الذي يلحق به النسب ؟ .

وأما ما نقضتم به علينا أنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف ، فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد هذا أحدهما

والثاني : أنه يلحقه وإن لم يستأنف إقرارا ، ومن رجح القول الأول قال : قد يستبرئها السيد بعد الولادة فيزول حكم الفراش بالاستبراء ، فلا يلحقه ما بعد الأول إلا باعتراف مستأنف أنه وطئها كالحال في أول ولد ، ومن رجح الثاني قال : قد يثبت كونها فراشا أولا ، والأصل بقاء الفراش حتى يثبت ما يزيله إذ ليس هذا نظير قولكم : إنه لا يلحقه الولد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحقه ، وأبطل من هذا الاعتراض قول بعضهم : إنه لم يلحقه به أخا ، وإنما جعله له عبدا ، ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال : ( هو لك ) أي : مملوك لك ، وقوى هذا الاعتراض بأن في بعض ألفاظ الحديث " هو لك عبد " وبأنه أمر سودة أن تحتجب منه ، ولو كان أخا لها لما أمرها بالاحتجاب منه ، فدل على أنه أجنبي منها .

قال : وقوله : ( الولد للفراش ) تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة ، أي لم تكن هذه الأمة فراشا له ؛ لأن [ ص: 371 ] الأمة لا تكون فراشا ، والولد إنما هو للفراش ، وعلى هذا يصح أمر احتجاب سودة منه ، قال : ويؤكده أن في بعض طرق الحديث : " احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ " قالوا : وحينئذ فتبين أنا أسعد بالحديث وبالقضاء النبوي منكم .

قال الجمهور : الآن حمي الوطيس والتقت حلقتا البطان ، فنقول - والله المستعان - أما قولكم : إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله عبدا يرده ما رواه محمد بن إسماعيل البخاري في " صحيحه " في هذا الحديث : ( هو لك ، هو أخوك يا عبد بن زمعة ) وليس اللام للتمليك ، وإنما هي للاختصاص كقوله : ( الولد للفراش )

فأما لفظة قوله ( هو لك عبد ) فرواية باطلة لا تصح أصلا .

وأما أمره سودة بالاحتجاب منه ، فإما أن يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة ، وإما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالا للدليلين ، فإن الفراش دليل لحوق النسب ، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه ، فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي لقوته ، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها ، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه ، فهذا الزاني يثبت النسب منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية دون الميراث والنفقة والولاية وغيرها ، وقد يتخلف بعض أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع ، وهذا كثير في الشريعة ، فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة ، وهل هذا إلا محض الفقه ؟ وقد علم بهذا معنى قوله " ليس لك بأخ " لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصح ، وقد ضعفها أهل العلم بالحديث ، ولا نبالي بصحتها مع قوله لعبد : ( هو أخوك ) وإذا جمعت أطراف كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقرنت قوله " هو أخوك " بقوله : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تبين لك بطلان ما ذكروه من التأويل ، وأن الحديث صريح في خلافه لا يحتمله بوجه والله أعلم .

والعجب أن منازعينا في هذه المسألة يجعلون الزوجة فراشا لمجرد العقد ، وإن كان بينها وبين الزوج بعد [ ص: 372 ] المشرقين ، ولا يجعلون سريته التي يتكرر استفراشه لها ليلا ونهارا فراشا .

التالي السابق


الخدمات العلمية