الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الاستسقاء بذوي الصلاح وإكثار الاستغفار ورفع الأيدي بالدعاء وذكر أدعية مأثورة في ذلك

                                                                                                                                            1349 - ( عن أنس أن عمر بن الخطاب { كان إذا قحطوا ، استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا ، فيسقون } . رواه البخاري ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( كان إذا قحطوا ) قال في الفتح : قحطوا بضم القاف وكسر المهملة : أي أصابهم القحط قال : وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده : " أن العباس لما استسقى به عمر قال : اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة ، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا [ ص: 11 ] الغيث ; فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس " ) .

                                                                                                                                            وأخرج أيضا من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : " استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب " وذكر الحديث ، وفيه : " فخطب الناس عمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد ، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس ، واتخذوه وسيلة إلى الله " وفيه : " فما برحوا حتى أسقاهم الله " .

                                                                                                                                            وأخرج البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال عن أبيه بدل ابن عمر ، فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان .

                                                                                                                                            وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة ، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر ، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم ، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر ، قال : ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة ، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه انتهى كلام الفتح وظاهر قوله : " كان إذا قحطوا استسقى بالعباس " أنه فعل ذلك مرارا كثيرة كما يدل عليه لفظ كان ، فإن صح أنه لم يقع منه ذلك إلا مرة واحدة كانت ( كان ) مجردة عن معناها الذي هو الدلالة على الاستمرار

                                                                                                                                            1350 - ( وعن الشعبي رضي الله عنه قال : خرج عمر يستسقي ، فلم يزد على الاستغفار ، فقالوا : ما رأيناك استسقيت ، فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر ، ثم قرأ : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا } { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه } الآية رواه سعيد في سننه ) قوله : ( فلم يزد على الاستغفار ) فيه استحباب الاستكثار من الاستغفار ; لأن منع القطر متسبب عن المعاصي والاستغفار يمحوها فيزول بزوالها المانع من القطر قوله : ( بمجاديح ) بجيم ثم دال مهملة ثم حاء مهملة أيضا جمع مجدح كمنبر قال في القاموس : مجاديح السماء : أنواؤها انتهى .

                                                                                                                                            والمراد بالأنواء النجوم التي يحصل عندها المطر عادة ، فشبه الاستغفار بها واستدل عمر بالآيتين على أن الاستغفار الذي ظن أن الاقتصار عليه لا يكون استسقاء من أعظم الأسباب التي يحصل عندها المطر والخصب ; لأن الله جل جلاله قد وعد عباده بذلك وهو لا يخلف الوعد ، ولكن إذا كان الاستغفار واقعا من صميم القلب وتطابق عليه الظاهر والباطن ، وذلك مما يقل وقوعه [ ص: 12 ]

                                                                                                                                            1351 - ( وعن أنس رضي الله عنه قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء ، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه . } متفق عليه ولمسلم : { أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفه إلى السماء ) } . قوله : ( إلا في الاستسقاء ) ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء ، وهو معارض للأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة ، وقد أفردها البخاري بترجمة في آخر كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث ، وصنف المنذري في ذلك جزءا وقال النووي في شرح مسلم : هي أكثر من أن تحصر قال : وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما قال : وذكرتها في آخر باب صفة الصلاة في شرح المهذب انتهى .

                                                                                                                                            فذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل بها أولى ، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على جهة مخصوصة : إما على الرفع البليغ ، ويدل عليه قوله : " حتى يرى بياض إبطيه " ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء .

                                                                                                                                            إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء ، وكأنه عند الاستسقاء زاد على ذلك فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وحينئذ يرى بياض إبطيه وإما على صفة رفع اليدين في ذلك كما في رواية مسلم المذكورة في الباب ولأبي داود من حديث أنس " كان يستسقي هكذا ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه " . والظاهر أنه ينبغي البقاء على النفي المذكور عن أنس فلا ترفع اليد في شيء من الأدعية إلا في المواضع التي ورد فيها الرفع ، ويعمل فيما سواها بمقتضى النفي وتكون الأحاديث الواردة في الرفع في غير الاستسقاء أرجح من النفي المذكور في حديث أنس إما لأنها خاصة فيبنى العام على الخاص ، أو لأنها مثبتة وهي أولى من النفي .

                                                                                                                                            وغاية ما في حديث أنس أنه نفى الرفع فيما يعلمه ، ومن علم حجة على من لم يعلم قوله : ( فأشار بظهر كفه إلى السماء ) قال في الفتح : قال العلماء : السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهر كفيه إلى السماء ، وإذا دعا بحصول شيء أو تحصيله أن يجعل بطن كفيه إلى السماء ، وكذا قال النووي في شرح مسلم حاكيا لذلك عن جماعة من العلماء وقيل : الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال كما قيل في تحويل الرداء وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه ، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه } وفي [ ص: 13 ] إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور

                                                                                                                                            1352 - ( وعن أنس رضي الله عنه قال { : جاء أعرابي يوم الجمعة فقال : يا رسول الله هلكت الماشية ، وهلكت العيال ، وهلك الناس ; فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يدعو ، ورفع الناس أيديهم معه يدعون ; قال : فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا } مختصر من البخاري ) قوله : ( جاء أعرابي ) لفظ البخاري : " أتى رجل أعرابي من أهل البادية " في لفظ له " جاء رجل " وفي لفظ : " دخل رجل المسجد يوم جمعة " وسيأتي ، قال في الفتح : لم أقف على تسمية هذا الرجل قوله : ( هلكت الماشية ) في الرواية الآتية في باب ما يقول وما يصنع " هلكت الأموال " وهي أعم من الماشية ، ولكن المراد هنا الماشية كما سيأتي وفي رواية للبخاري : " هلكت الكراع " بضم الكاف : وهي تطلق على الخيل وغيرها قوله : ( وهلكت العيال وهلك الناس ) هو من عطف العام على الخاص قوله : ( فرفع رسول الله ) صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            زاد مسلم في رواية شريك " حذاء وجهه " ولابن خزيمة : " حتى رأيت بياض إبطيه " وزاد البخاري في رواية ذكرها في الأدب " فنظر إلى السماء " والحديث سيأتي بطوله وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية رفع اليدين عند الاستسقاء

                                                                                                                                            1353 - ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما قال { : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ، ولا يخطر لهم فحل ، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فحمد الله ثم قال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث ، ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا : قد أحيينا } رواه ابن ماجه ) الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا : حدثنا محمد بن أبي القاسم أبو الأحوص حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا الربيع ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا حصين عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس فذكره ، ورجاله ثقات ، أخرجه أيضا أبو عوانة وسكت عنه الحافظ في التلخيص وقد رويت بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها عن جماعة [ ص: 14 ] من الصحابة مرفوعة منها عن أنس وسيأتي وعن جابر عند أبي داود والحاكم وعن كعب بن مرة عند الحاكم في المستدرك وعن عبد الله بن جراد عند البيهقي وإسناده ضعيف جدا وعن عمرو بن شعيب وسيأتي وعن المطلب بن حنطب وسيأتي أيضا وعن ابن عمر عند الشافعي وعن عائشة بنت الحكم عن أبيها عند أبي عوانة بسند واه وعن عامر بن خارجة بن سعيد عن جده عند أبي عوانة أيضا وعن سمرة عند أبي عوانة أيضا وإسناده ضعيف وعن عمرو بن حريث عن أبيه عند أبي عوانة أيضا وعن أبي أمامة عند الطبراني وسنده ضعيف قوله : ( ولا يخطر لهم فحل ) بالخاء المعجمة ثم الطاء المهملة بعدها راء ، قال في القاموس : خطر الفحل بذنبه يخطر خطرا وخطرانا وخطيرا : ضرب به يمينا وشمالا انتهى وأراد بقوله " لا يخطر لهم فحل " أن مواشيهم قد بلغت لقلة المرعى إلى حد من الضعف لا تقوى معه على تحريك أذنابها قوله : ( غيثا ) الغيث : المطر ، ويطلق على النبات تسمية له باسم سببه قوله : ( مغيثا ) بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون الياء التحتية بعدها ثاء مثلثة وهو المنقذ من الشدة قوله : ( مريئا ) بالهمزة هو المحمود العاقبة المنمي للحيوان قوله : ( مريعا ) بضم الميم وفتحها وكسر الراء وسكون الياء التحتية بعدها عين مهملة : هو الذي يأتي بالريع وهو الزيادة ، مأخوذ من المراعة وهي الخصب ومن فتح الميم جعله اسم مفعول أصله مريوع كمهيب ، ومعناه مخصب .

                                                                                                                                            ويروى بضم الميم وسكون الراء بعدها موحدة مكسورة من قولهم : أربع يربع : إذا أكل الربيع ، ويروى بضم الميم والمثناة فوقية مكسورة من قولهم أربع المطر : إذا أنبت ما ترتع فيه الماشية قوله : ( طبقا ) هو المطر العام كما في القاموس قوله : ( غدقا ) الغدق : هو الماء الكثير ، وأغدق المطر واغدودق : كبر قطره ، وغيدق : كثر بزاقه قوله : ( غير رائث ) الريث : الإبطاء ، والرائث : المبطئ قوله : ( قد أحيينا ) أي مطرنا ، لما كان المطر سببا للحياة عبر عن نزوله بالإحياء

                                                                                                                                            1354 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال : اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت } رواه أبو داود )

                                                                                                                                            1355 - ( وعن المطلب بن حنطب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند المطر { : اللهم سقيا رحمة ، ولا سقيا عذاب ، ولا بلاء ، ولا هدم ، ولا غرق ، اللهم على [ ص: 15 ] الظراب ومنابت الشجر ; اللهم حوالينا ولا علينا } رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل ) .

                                                                                                                                            الحديث الأول أخرجه أبو داود متصلا ، ورواه مالك مرسلا ، ورجحه أبو حاتم . والحديث الثاني هو مرسل كما قال المصنف ، وأكثر ألفاظه في الصحيحين ، وقد تقدم ما في الباب من الأحاديث قوله : ( على الظراب ) بكسر المعجمة وآخره موحدة جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن : قيل : هو الجبل المنبسط الذي ليس بالعالي وقال الجوهري : الرابية الصغيرة قوله : ( اللهم حوالينا ) بفتح اللام وفيه حذف تقديره اجعل أو أمطر ، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور قوله : ( ولا علينا ) فيه بيان للمراد بقوله " حوالينا " ; لأنه يشمل الطرق التي حولهم ، فأراد إخراجها بقوله : " ولا علينا " قال الطيبي : في إدخال الواو هنا معنى لطيف ، وذلك ; لأنه لو أسقطها لكان مستسقيا للآكام وما معها فقط ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودا لعينه ، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر فليست الواو محصلة للعطف ولكنها للتعليل كقولهم : تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ، فإن الجوع ليس مقصودا لعينه ، ولكن ليكون مانعا من الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك أنفا . انتهى .

                                                                                                                                            والحديث الأول يدل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء والحديث الثاني يدل على استحباب الدعاء بما فيه عند نزول المطر .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية