الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الحكم الخامس : رجوع أرباب السلع وغيرها إلى مالهم . قال الطرطوشي : إذا فلس بثمن المبيع والثمن حال أو مؤجل والسلعة قائمة بيده خير البائع في تركها ومحاصة الغرماء بالثمن ، وفي فسخ البيع وأخذ عين ماله إلا أن يختار الغرماء دفع الثمن إليه فذلك لهم ، وإن مات مفلسا فلا حق للبائع في عين سلعته ، وهو أسوة [ ص: 173 ] الغرماء ، وقال ( ح ) : لا حق له في عين ماله في الموضعين ، وبعد القبض أسوة الغرماء ، وقبل القبض تباع السلعة ويقبض حقه من الثمن ، وقال ( ش ) : هو أحق بها في الموضعين ، إن شاء أخذها أو تركها وحاصص بالثمن ، ووافقنا ابن حنبل .

                                                                                                                وأصل المسألة أن الثمن يجري مجرى المثمن ، وكذلك يقبل الإقالة والرد بالعيب ، فإذا تعذر بالفلس كان كتعذر تسليم المبيع للمشتري فسخ البيع ، وعند أبي حنيفة الثمن معقود به لا معقود عليه ، فلا ينفسخ العقد بالإعسار به .

                                                                                                                لنا : ما في الموطأ والبخاري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما رجل أفلس فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به " . وروى مالك أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يعط الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به من غيره ، فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء " .

                                                                                                                فإن قيل : أراد بصاحب المتاع المشتري ; لأنه صاحب المتاع حقيقة ، وأما البائع فهو كان صاحب المتاع ليلا يظن أن الإفلاس يضعف ملكه .

                                                                                                                قلنا : بل المراد المبتاع لأن المشتري أحق قبل الإفلاس فاشتراط الإفلاس لا يتم إلا على ما ذكرناه ، ولأن أحق صيغة أفعل يقتضي الاشتراك ، وعلى رأيكم لا اشتراك بل المشتري متعين ، وعلى رأينا يكون الحق للمشترك في الانتزاع ، وللبائع في أصل الملك فيتعين ما قلناه ، وبالقياس على ما قبل قبض السلعة له حق الفسخ كما قاله بعضهم قبل القبض ، وقال بقيتهم : يباع ويختص بالثمن ، فنقول : فلا يكون أسوة الغرماء كما قبل القبض ، والجامع تعذر الثمن . وكما أن تعذر المبيع يوجب حق الفسخ فكذلك تعذر الثمن ; لأن كل واحد عوض مقصود ، ولا فرق بين المعين وما في الذمة ; لأن العبد المبيع إذا أبق ثبت حق الفسخ ، والمسلم فيه إذا تعذر ثبت حق الفسخ عندهم ، وهو أحد أقوالنا وأحد قولي الشافعي .

                                                                                                                ولا يلزمنا إذا باعه ثم رجع إليه وأعسر بالثمن ، فإن البائع يملك الرجوع ، ولا إذا وهبه ثم أفلس بثمنه ؛ لتعلق حق الغير به . وكذلك إذا مات مفلسا ; لأن الموت يقطع الأملاك [ ص: 174 ] وينقلها للوارث ، ولا إذا منع المبتاع الثمن من غير فلس لعدم التعذر ، فيأخذ الحاكم الثمن قهرا ويسلمه له ، أو نقول أحد المتبايعين يثبت له الخيار عند التعذر في حقه كالمشتري إذا اطلع على العيب بل أولى ; لأن تعذر الكل أعظم من تعذر الوصف ، ولأن نسبة العقد إليهما نسبة واحدة ، فوجب استواؤهما في آثارها ، ولأنا فسخنا العقد بأجنبي عنه إذا تعذر وهو الرهن ، فأولى تعذر الركن ، أو نقول عقد معاوضة فيلحقه الفسخ بالإفلاس كالكتابة ، ولا يلزم إذا باع من نفسه ; لأنها عتاقة ، ولا تلزمه الحوالة إذا وجد المحال عليه مفلسا ، كقولنا عقد معاوضة والحوالة نقل للحق من ذمة إلى ذمة ، ولا الخلع إذا أفلست المرأة ; لأن الطلاق والعتاق لا يقبلان الفسخ بخلاف البيع .

                                                                                                                ولا يقال : رتبتم على العلة ضد مقتضاها ; لأن المعاوضة مقتضى اللزوم بدليل اعتصار الهبة دون البيع ، وثبوت الرجعة في المطلقة بغير عوض بخلاف الخلع .

                                                                                                                لأنا نقول : بل مقتضاها ، لأن المعاوضة تقتضي التسوية بينهما ، فلما كان لأحدهما الفسخ يكون للآخر كما تقدم .

                                                                                                                احتجوا بقوله - عليه السلام - : ( أيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه قبض من ثمنه شيئا أو لم يقبض فهو أسوة الغرماء ) . وهذا نص ، ولأن الإفلاس لو كان سببا لذلك لكان سببا مع هلاك السلعة كالرد بالعيب ، ولأن حق الجناية أعظم من حق البيع لترتبه ، فهو أمر غير رضى المجني عليه ، وهو لا يتعلق بأعيان الأموال فالبيع أولى ، وبالقياس على رهن المشتري المبيع قبل فلسه ، ولأنه أسقط حقه بالتسليم فيه فلا يرجع لأنه يساوي الغرماء في سبب الاستحقاق ، ولأنه من أموال فلا يكون لأحد فيه سلطان ، ولأنه لو اشترى بمؤجل وباع بحال ثم اشتراه بمؤجل ثم باعه من آخر بحال ، ثم اشتراه بمؤجل وأفلس بجميع الأثمان فإن لم [ ص: 175 ] يثبت الرجوع لزم مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجوع المبيع بحاله مع الفلس ، وانتفضت قاعدتكم ، وإن ثبت فليس أحدهم أولى من الآخر فيلزم الترجيح من غير مرجح ، أو الجمع بين النقيضين في رجوع الكل ; لأن كل واحد يكون مختصا بالمبيع ، فالمبيع لا يكون مختصا ، لأن المثمن مباين للثمن من وجوه : أحدها : أن الثمن في حكم المقبوض ، ولهذا تجوز المعاوضة عليه دون العين المبيعة قبل القبض . وثانيها : إذا انقطع جنس المسلم فيه ثبت الفسخ ، وانقطاع جنس الثمن لا يثبته .

                                                                                                                والجواب عن الأول : القول بموجبه ; لأنه لا يرجع عندنا في الهلاك ، ونحن نحتج بنقل ( ش ) ، والفرق أن في الهلاك اشتد باب الاكتساب فتعينت التسوية بين الغرماء ; ليلا يذهب بعض الحق مطلقا . أما في الفلس مع الحياة فخير الجميع متوقع بما تعينت المفسدة ، وعن الثاني : أن الفسخ في العيب عند الهلاك يحصل فائدة ، وهو قيمة السلعة كاملة ، والكامل أتم من الناقص في قيمته ، وهاهنا لو فسخ رجع إلى ذمة المشتري ، وإذا لم يفسخ فهو في ذمة المشتري ، مع أن القيمة قد تكون أقل أو مساوية أو أكثر ولا مرجح قبل الكشف عن ذلك ، فلم يكن ثم غالب يناط به الحكم العام ; فيسقط اعتبار الفسخ لعدم الفائدة ، بخلاف العيب ، قرينة التمام دليل ظاهر على حصول الفائدة ، فظهر الفرق . وعن الثالث : أن أصل الجناية لا يتعلق بأعيان الأموال ، والبيع تعلق بأعيان الأموال ، فكان تعذرها مؤثرا فيه . وعن الرابع : أن الرهن يوجب تعلق حق الغير بغير ما تعلق به حقه ، بخلاف الغرماء لم يتعلق حقهم إلا بالذمة دون عين المبيع ، فظهر الفرق . وعن الخامس : إسقاط الحق بالتسليم لا يمنع الرجوع ، كما إذا اشترى عبدا بثوب وسلم الثوب فأبق العبد أو وجد أحد العرضين معيبا قبض الآخر ، وقد رجح على الغرماء بوجود عين ماله بخلافهم . وعن السادس : أن كونه ماله لا يمنع من سلطان الغير عليه ، كالعبد إذا أبق بعد أن صار الثوب من أمواله ، وعن السابع : قال أبو الوليد : إنه لم يجد في هذه الصورة نقلا ، ورأى أن الآخر أحق لأنه كالناسخ فما رجحناه إلا بمرجح . وعن الثامن : أن التصرف يجوز عندنا في المبيع إلا في الطعام ; تعظيما لقدره لكونه سبب الأقوات وقوام الحياة ، فهذا الأمر يخصه لا لكونه ثمنا أو مثمنا .

                                                                                                                [ ص: 176 ] ولنا : على ( ش ) ما رواه مالك أنه - عليه السلام - قال : " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاع منه ولم يقبض الذي باع منه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به ، فإن مات الذي ابتاعه فصاحب المبتاع أسوة الغرماء " .

                                                                                                                احتج بما رواه : أنه - عليه السلام - قال : " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ، فلأن الرجوع في الموت أولى بخراب الذمة والإياس ، فلو عكس الحال لكان أولى ، ولأن الشفيع يثبت حقه في الحياة وفي الموت مع الوارث فأولى البائع ; لأنه كان مالكا لغير المبيع ، وما رضي بالنقل إلا بشرط سلامة العاقبة بخلاف الشفيع .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن إسناده ضعيف ، وعن الثاني : تقدم الفرق عنه ، وعن الثالث : أن ضرر الشفيع بالشريك المتجدد لم يختلف في الحياة والموت ، وتعذر الاستيفاء في الموت متعين فلا يسقط شيئا من حقوق الغرماء كما تقدم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية