الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 159 ] باب تعجيل الصدقة

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا ، فجاءته إبل من إبل الصدقة . قال أبو رافع : فأمرني أن أقضيه إياها قال الشافعي : العلم يحيط أنه لا يقضى من إبل الصدقة والصدقة لا تحل له ، إلا وقد تسلف لأهلها ما يقضيه من مالهم ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحالف بالله " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف ويكفر ثم يحنث ، وعن ابن عمر أنه كان يبعث بصدقة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين ، قال : فبهذا نأخذ . قال المزني : ونجعل في هذا الموضع ما هو أولى به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلف صدقة العباس قبل حلولها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال :

                                                                                                                                            يجوز عندنا تقديم الزكاة قبل الحول ، والكفارة قبل الحنث . وقال ربيعة وداود : لا يجوز تقديمها جميعا . وقال أبو حنيفة : يجب تقديم الزكاة دون الكفارة .

                                                                                                                                            وقال مالك : يجوز تقديم الكفارة دون الزكاة ، وبه قال أبو عبيد من أصحابنا : واستدل من منع من تقديم الزكاة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول " ، فنفى وجوب الزكاة واسمها ، وإذا كان الاسم منفيا لم يكن الإجزاء واقعا . قالوا : ولأنه تعجيل زكاة قبل وجوبها فوجب أن لا تجوز كالزروع والثمار ، لأنها عبادة محضة تفتقر إلى النية ، فوجب أن لا يجوز فعلها قبل وجوبها كالصلاة والصيام ، ولأن الزكاة تجب بعدد وأمد ، فالعدد النصاب ، والأمد الحول ، فلما لم يجز تقديمها على العدد لم يجز تقديمها على الأمد ، ولأن الزكاة تفتقر إلى من تجب له وإلى من تجب عليه فلما لم يجز أن يتعجلها من تجب له وهو أن يعطي غنيا وينتظر فقره ، كذلك لا يجوز أن يعجلها من تجب عليه ، والدلالة على صحة ما [ ص: 160 ] ذهبنا إليه ما رواه حجية بن عدي ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك وروى أبو البختري عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس صدقة عامين وروى مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أسلفنا العباس صدقة العام والعام المقبل فإن قيل : فتعجيل زكاة عامين عندكم لا يجوز ؟ قلنا : فيه لأصحابنا وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الأظهر جواز تعجيلها أعواما إذا بقي بعد المعجل نصاب استدلالا بظاهر هذه الأخبار .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز تعجيل أكثر من عام واحد . فعلى هذا عن حديث العباس جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تعجل ذلك في عامين متواليين أحدهما بعد الآخر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أخذ منه في رأس الحول زكاة العام الماضي وهي واجبة وزكاة العام المقبل وهي تعجيل ، فنقل الراوي أنه استسلف منه زكاة عامين ، ويدل على ما ذكره الشافعي في صدر الباب من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا ، فلما جاءته إبل من إبل الصدقة فأمرني أن أقضيه فلما رد القرض من مال الصدقة دل على أنه كان قد اقترض لأهل الصدقة ، لأنه لا يجوز أن يصرف مال الصدقة في غير أهلها ، مع أن الصدقة لا تحل له ، وإذا كان كذلك فالدلالة فيه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الصدقة إذا وجبت على أرباب الأموال وجبت لأهل السهمان ، فإذا جاز أن يتعجلها من تجب له قبل وجوبها له ، جاز أن يعجلها من تجب عليه قبل وجوبها عليه .

                                                                                                                                            والثاني : أن القرض المعجل بدل والزكاة مبدل ، فلما جاز تعجيل البدل عن الزكاة كان تعجيل المبدل وهي الزكاة أولى ؛ لأن المبدل أكمل حالا من البدل ، فكان في هذا الحديث دلائل .

                                                                                                                                            [ ص: 161 ] أحدها : جواز تعجيل الصدقة .

                                                                                                                                            والثاني : جواز قرض الحيوان .

                                                                                                                                            والثالث : جواز السلم فيه .

                                                                                                                                            والرابع : أن من اقترض حيوانا فعليه رد مثله ؛ لأن من أصحابنا من قال : عليه رد قيمته كالغصب ، فإن قيل : ففي الحديث أنه اقترض بكرا فرد رباعيا وذلك أزيد ، ولا يجوز أن يصرف مال الصدقة في غير حقه ، قيل : إن كان ذلك أزيد في السن فيجوز أن يكون أنقص في الجودة فتكون زيادة السن مقابلة لنقصان الجودة ، فهذا جواب . أو يجوز أن يكون الرجل ممن تحل له الصدقة ، فكان ما قابل دينه قضاء وما زاد عليه صدقة ، وهذا جواب ثان . أو كان فعل ذلك ليرغب الناس في قرض الفقراء ، ويجوز للإمام أن يفعل مثل هذا لما فيه من المصلحة العامة ، وهذا جواب ثالث ، ثم من الدليل في أصل المسألة من طريق المعنى : أنه حق في مال يجب لسببين يختصان به جاز تقديمه على أحد سببيه ، كالكفارة التي يجوز تقديمها بعد اليمين وقبل الحنث .

                                                                                                                                            وقولنا : " حق في مال " احترازا من صوم الكفارة .

                                                                                                                                            وقولنا " يجب بسببين " احترازا من الأضحية ، وقولنا " يختصان به " احترازا من الإسلام والحرية ، لأنهما لا يختصان بالزكاة ، والحول والنصاب يختصان بالزكاة ، ولأنه حق يتنوع نوعين ، يجب بالحول ويجب بغير حول ، فوجب أن يجوز تقديم ما يجب بالحول قبل حوله كالدية التي يكون عمدها حالا وعطاها مؤجلا يجوز تقديمه قبل أجله ؛ ولأن الحقوق ضربان : حق لله تعالى وحق لآدمي ، وحق الآدمي ضربان : حق على بدن وحق في مال ، فما كان على البدن كالقصاص وحد القذف لا يجوز تقديمه قبل وجوبه ، وما كان في مال كالديون يجوز تقديمه قبل وجوبه ، كذلك حق الله تعالى ضربان : حق على بدن كالصلاة والصيام لا يجوز تقديمه قبل وجوبه ، وحق في مال كالزكاة والكفارة يجوز تقديمه قبل وجوبه ، وتحرير ذلك قياسا : أن كل مال يحل بانقضاء مدة يجوز تقديمه قبل انقضاء تلك المدة كالديون المؤجلة ، ولأن الآجال إنما تثبت رفقا بمن عليه الحق ، فإذا أراد أن لا يرتفق به ويؤدي الحق قبل أجله ، فقد أسقط حق نفسه ، وأرفق صاحب الحق به ، فوجب أن يقع الإجزاء في موقعه الجواب ، أما قوله صلى الله عليه وسلم " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول فالمراد به نفي الوجوب دون الإجزاء بدليل ما مضى .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الزرع والثمار ، فقد كان أبو علي بن أبي هريرة يجمع بينهما ، ويجيز تعجيل زكاة الزرع والثمار ، إذا علم أن فيها على غالب العادة خمسة أوسق ، وكان أبو إسحاق المروزي يمنع من تعجيل زكاتها ، ويفرق بينهما بشيئين :

                                                                                                                                            [ ص: 162 ] أحدهما : أن الزروع والثمار تجب زكاتها بسبب واحد ، وتلك بسببين .

                                                                                                                                            والثاني : أن حال الزروع والثمار عند تعجيل الزكاة مخالف لحاله عند وجوب الزكاة ، لأنه عند التعجيل قصل وبلح والمواشي في الحالين سواء ، وأما قياسهم على الصلاة والصيام فالمعنى في الصلاة أنها من أفعال الأبدان ، وأما قياسهم على النصاب فإنما لم يجز ؛ لأنه قدم الحق قبل وجود أحد سببيه ، وجاز قبل الحول وبعد النصاب لوجود أحد سببيه كالكفارة ، وأما قولهم إنه لما لم يجز دفعها إلى من تجب له قبل الاستحقاق لم يجز أخذها ممن تجب عليه قبل استحقاقها ، ولا يجوز دفعها إلى من تجب له قبل استحقاقها على أن دفع الزكاة إلى الأغنياء عيب ، لأنه مال مصروف في ذوي الحاجات ، وهو مال مأخوذ من أربابه على وجه المواساة ، وقد توجد المواساة في التعجيل ولا توجد الحاجة في الغنى ، فأما تعجيل زكاة الفطر فلا تجوز قبل شهر رمضان ، وتجوز في شهر رمضان وقبل شوال ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية