الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) [ ص: 291 ] شرى بمعنى باع ، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري :


وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه

أي : بعت بردا ، وبرد غلامه . وقال الآخر :


ولو أن هذا الموت يقبل فدية     شريت أبا زيد بما ملكت يدي

أي : اشتريت أبا زيد ، والظاهر أن الضمير في ( وشروه ) عائد على ( السيارة ) أي : وباعوا يوسف ، ومن قال : إن الضمير في ( وأسروه ) عائد على إخوة يوسف جعله عائدا عليهم أي : باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس ، و ( بخس ) مصدر وصف به بمعنى مبخوس ، وقال مقاتل : زيف ناقص العيار ، وقال عكرمة والشعبي : قليل ، وهو معنى الزمخشري : ناقص عن القيمة نقصا ظاهرا ، وقال ابن قتيبة : البخس الخسيس الذي بخس به البائع ، وقال قتادة : بخس : ظلم ؛ لأنهم ظلموه في بيعه ، وقال ابن عباس وقتادة أيضا في آخرين : بخس : حرام ، وقال ابن عطاء : إنما جعله بخسا ؛ لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل ، انتهى . وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمنا ، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته ، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه ، و ( دراهم ) بدل من ( ثمن ) ، فلم يبيعوه بدنانير ، و ( معدودة ) إشارة إلى القلة ، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما ؛ لأن الكثيرة يعسر فيها العد ، بخلاف القليلة ، قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق : أربعون درهما . وقيل : ثلاثون درهما ونعلان وحلة ، وقال السدي : كانت اثنين وعشرين درهما كذا نقله الزمخشري عنه ، ونقله ابن عطية عن مجاهد : أخذها إخوته درهمين درهمين ، وصاحب التحرير عنه ، وعن ابن عباس ، وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية ، وعكرمة في رواية ، ونوف الشامي ووهب والشعبي وعطية والسدي ومقاتل في آخرين : عشرون درهما ، وعن ابن عباس أيضا : عشرون وحلة ونعلان . وقيل : ثمانية عشر درهما اشتروا بها أخفافا ونعالا ، وقيل : عشرة دراهم ، والظاهر عود الضمير في ( فيه ) إلى يوسف ؛ أي : لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله : الضحاك وابن جريج . وقيل : يعود على الثمن ، وزهدهم فيه لرداءة الثمن ، أو لقصد إبعاد يوسف لا الثمن ، وهذا إذا كان الضمير في ( وشروه ) ( وكانوا ) عائدا على إخوة يوسف ، فأما إذا كان عائدا على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه ، أو لوصف إخوته بالخيانة والإباق ، أو لعلمهم أنه حر ، وقال الزمخشري : من الزاهدين ، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ؛ لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن ، ويجوز أن يكون معنى ( وشروه ) اشتروه ، يعني الرفقة من إخوته . ( وكانوا فيه من الزاهدين ) لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق ، فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه ، ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون : استوثقوا منه لا يأبق ، انتهى . وفيه تقدم نظيره في ( إني لكما لمن الناصحين ) وأنه خرج تعلق الجار إما ( باعني ) مضمرة ، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين ؛ أي : وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين ، أو بالزاهدين ؛ لأنه يتسامح في الجار والظرف ، فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما .

( وقال الذي اشتراه من مصر ) ذكروا أقوالا متعارضة فيمن اشتراه ، وفي الثمن الذي اشتراه به ، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة ، فقيل : اشتراه رجل من العماليق وقد آمن ب يوسف ، ومات في حياة يوسف . قيل : وهو إذ ذاك الملك بمصر ، واسمه الريان بن الوليد [ ص: 292 ] بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان ، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى ، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة ، بدليل قوله : ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ) وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، وقيل : عرض في السوق وكان أجمل الناس ، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما ، فقيل : وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير ، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه ، واسم الملك الريان بن الوليد ، وقيل : مصعب بن الريان ، وهو أحد الفراعنة ، واسم العزيز قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : إطفير ، وقيل : قنطور ، واسم امرأته راعيل ، وقيل : زليخا . قال ابن عطية : وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا ، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر ، وقال مجاهد : كان مسلما ، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل ، وقال السدي : العزيز هو الملك ، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا ، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس ، ولام ( لامرأته ) تتعلق بـ ( قال ) فهي للتبليغ ، نحو قلت لك لا بـ ( اشتراه ) عسى أن ينفعنا ، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده ، فينفعنا بكفايته ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيما لا يولد له ، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك ، وكذلك أي : مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه ، وأمر امرأته بإكرام مثواه . ( مكنا ليوسف في الأرض ) أي : أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه ؛ أي : حكمناه فيها ، ولام ( ولنعلمه ) متعلقة بمحذوف ، إما قبله لنملكه ولنعلمه ، وإما بعده ؛ أي : ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، كان ذلك الإنجاء والتمكين ، أو الواو مقحمة : أي : مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه كل مقول ، و ( الأحاديث ) الرؤيا ، قاله مجاهد ، وقيل : أحاديث الأنبياء والأمم ، والضمير في ( على أمره ) الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير ، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، ويقضي ، أو على يوسف قاله الطبري ؛ أي : يديره ولا يكله إلى غيره ، قد أراد إخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره ، وأكثر الناس المنفي عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : لا يعلمون أن الأمر بيد الله . وقيل : المراد بالأكثر الجميع ؛ أي : لا يطلعون على غيبه . وقيل : المراد بأكثر الناس أهل مصر . وقيل : أهل مكة .

والأشد عند سيبويه جمع واحده شدة ، وأشد كنعمة وأنعم . وقال الكسائي : شد وأشد نحو صك وأصك ، وقال الشاعر :


عهدي به شد النهار كأنما     خضب البنان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله : الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم أو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين قاله الزجاج . أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة . ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو عشرون قاله الضحاك ، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة ورواه ابن جبير عن ابن عباس ، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة ، أو أربعون قاله الحسن ، وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - الخيمي عن الأشد فقال : هو خمس وثلاثون ، وتمامه أربعون ، وقيل : أقصاه اثنان وستون ، والحلم : الحكم ، والعلم : النبوة . وقيل : الحكم بين الناس ، والعلم : الفقه في الدين ، وهذا أشبه لمجيء [ ص: 293 ] قصة المراودة بعد هذه القصة ، وكذلك أي : مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين ، وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسنا في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه ، وعن الحسن : من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله ، وقال ابن عباس : المحسنين المهتدين ، وقال الضحاك : الصابرين على النوائب .

التالي السابق


الخدمات العلمية