الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          يوم حنين

                                                          قال تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما [ ص: 3265 ] رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنـزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنـزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم

                                                          المواطن جمع موطن، وهو مكان الحرب، الذي توطن فيه النفوس على القتال، وهو كما قال الزمخشري : ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها، قال الشاعر:


                                                          وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي



                                                          والمواطن الكثيرة: بدر، وجلاء بني قينقاع والنضير، وقريظة والأحزاب، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وذكر أيضا أحد، فما انهزم المسلمون ولكن أصابهم قرح، ومؤتة، فالمسلمون فيها قتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، وما فروا، ولكن عادوا ليستعدوا أمام مائتي ألف، ثم عاودوهم من بعد في تبوك فمن الله تعالى على المسلمين - أو بالأحرى المؤمنين - بالنصر في هذه المواطن، وقد هداهم الله تعالى إليه وأمدهم بالملائكة؛ لأن قلوبهم كانت مستعدة لتجلي الملائكة، وإمدادهم بهم.

                                                          وذكر سبحانه يوم حنين؛ لأن قلوب الكثرة من المسلمين لم تكن مستعدة لهذا التجلي الملائكي، وعبر سبحانه بيوم حنين، ولم يعبر بغزوة حنين؛ لأن هذه الغزوة كان لها دوران: دور يوم حنين وهو الذي جرح فيه المسلمون، والدور الثاني الذي انفرد به المهاجرون والأنصار فكان النصر وكان تأييد الملائكة.

                                                          [ ص: 3266 ] والعبرة كانت في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، أي أدخلت في نفوسهم العجب كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم، وقد حسبوا أن النصر بالكثرة العددية; ولذا قال تعالى: فلم تغن عنكم شيئا أي: فلم تغن عنكم شيئا من النصر، بل كانت الكثرة سببا في الهزيمة، وإن لم تكن هي النهاية، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى: وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي أنه سدت عليكم المسالك إذ نزلوا بوادي حنين، ولم يستطيعوا، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قلبه، قال تعالى: ثم وليتم مدبرين والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة.

                                                          والتعبير بـ(ثم) للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار، وقوله تعالى: (وليتم) إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو، تعمل فيها سيوفهم.

                                                          هذه إشارات إلى يوم حنين، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم من الذين ولوا، ويتبين من الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم.

                                                          "حنين" واد بين مكة والطائف، وأساس القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فتح الله عليه مكة، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله; لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق، وجمعوا جيشا كثيفا، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات، من هوازن وثقيف، وانضم إليهم بنو سعد بن بكر، وأوزاع من بني (هلال) وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والأموال من النعم والشاه وجاءوا بقضهم وقضيضهم.

                                                          خرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش الذي كان معه لفتح مكة، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان، فكانت عدته اثنا عشر ألفا.

                                                          [ ص: 3267 ] ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به.

                                                          جاءت هوازن مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد، واضطرب المسلمون، ولم يعرف أحد أحدا، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيأت هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه.

                                                          ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية من الأرض قد ثبت، وثبت معه المؤمنون، من المهاجرين والأنصار، وأخذ ينادي المسلمين، ولكن انكفأ بعضهم على بعض، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: انحط بهم الوادي في عماية الصبح، وثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس متهربين لا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين يقول: " أيها الناس هلم إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله " فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: "يا عباس ، اصرخ: يا معشر الأنصار" فأجابوه: لبيك لبيك! ذهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                          كان رسول الله ومعه بعض أهله الأدنين معه عمه العباس ، وهو آخذ بلجام دابته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ، وربيعة بن الحارث ، والفضل بن عباس ، وقثم بن العباس ، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله الأدنين، ومعهم وزيرا النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                          كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان إذا حمي الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه، والنبي ينادي المؤمنين، والعباس [ ص: 3268 ] جهير الصوت يصرخ في المؤمنين داعيا أهل البيعة التي كان بعدها الهجرة، فلما أحاط بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار من الأوس والخزرج تغير وجه القتال وتجرد أهل الإيمان للمشركين، بعد أن ماز الله الخبيث من الطيب، وانفصل الذين لا يزال في قلوبهم رجس، أو أسلموا ولما يؤمنوا.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية