الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فهذا الكلام في المجاز على وجه كلي ، ونحن نذكر ما ادعوا فيه المجاز من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل ، وذلك إنما يتبين بذكر أمثلة ادعوا فيها المجاز :

المثال الأول : قوله : ( وجاء ربك ) ، ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) ونظائره ، قيل : هو من مجاز الحذف تقديره وجاء أمر ربك ، وهذا باطل من وجوه :

أحدها : أنه إضمار ما لا يدل عليه بمطابقة ولا تضمن ولا لزوم ، وادعاء حذف ما لا دليل عليه يرجع لوثوقه من الخطاب ، ويطرق كل مبطل على ادعاء إضمار ما يصح باطله .

الثاني : أن صحة التركيب واستقامة اللفظ لا تتوقف على هذا المحذوف ، بل الكلام مستقيم تام قائم المعنى بدون إضمار ، فإضماره مجرد خلاف الأصل فلا يجوز .

[ ص: 358 ] الثالث : أنه إذا لم يكن في اللفظ دليل على تعيين المحذوف كان تعيينه قولا على المتكلم بلا علم ، وإخبارا عنه بإرادة ما لم يقم به دليل على إرادته ، وكذلك كذب عليه .

الرابع : أن في السياق ما يبطل هذا التقدير ، وهو قوله : ( وجاء ربك والملك ) فعطف مجيء الملك على مجيئه سبحانه يدل على تغاير المجيئين ، وأن مجيئه سبحانه حقيقة ، كما أن مجيء الملك حقيقة ، بل مجيء الرب سبحانه أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك ، وكذلك قوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) ففرق بين إتيان الملائكة وإتيان الرب وإتيان بعض آيات ربك ، فقسم ونوع ، ومع هذا التقسيم يمتنع أن يكون القسمان واحدا فتأمله .

ولهذا منع عقلاء الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه ، وقالوا : هذا يأباه التقسيم والترديد والاطراد .

الخامس : أنه لو صرح بهذا المحذوف المقدر لم يحسن وكان كلاما ركيكا ، فادعاء صديق ما يكون النطق به مشتركا باطل ، فإنه لو قال : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ملك ربك أو أمر ربك أو يأتي بعض آيات ربك كان مستهجنا .

السادس : أن اطراد نسبة المجيء والإتيان إليه سبحانه دليل الحقيقة ، وقد صرحتم بأن من علامات الحقيقة الاطراد ، فكيف كان هذا المطرد مجازا .

السابع : أنه لو كان المجيء والإتيان مستحيلا عليه لكان كالأكل والشرب والنوم والغفلة ، وهكذا هو عندكم سواء ، فمتى عهدتم إطلاق الأكل والشرب والنوم والغفلة عليه ونسبتها إليه نسبة مجازية ، وهي متعلقة بغيره ؟ وهل في ذلك شيء من الكمال البتة ؟ فإن قوله : ( وجاء ربك ) وأتى ويأتي عندكم في الاستحالة ، مثل نام وأكل وشرب ، والله سبحانه لا يطلق على نفسه هذه الأفعال ولا رسوله صلى الله عليه وسلم لا بقرينة ولا مطلقة فضلا عن تطرد نسبتها إليه ، وقد اطرد نسبة المجيء والإتيان ، والنزول والاستواء إليه مطلقا من غير قرينة تدل على أن الذي نسب إليه ذلك غيره من مخلوقاته ، فكيف تسوغ دعوى المجاز فيه .

الثامن : أن المجاز لو كان ثابتا فإنما يصار إليه عند تعذر الحمل على الحقيقة إذ هي الأصل ، فما الذي أحال حمل ذلك على حقيقته من عقل أو نقل أو اتفاق من [ ص: 359 ] اتفاقهم حجة ؟ فأما النقل والاتفاق فهو من جانب الحقيقة بلا ريب ، وأما العقل فإنكم تزعمون أنكم أولى به منهم ، وهم قد أبطلوا جميع عقلياتكم التي لأجلها ادعيتم أن نسبة المجيء والإتيان والنزول والاستواء إلى الله مجاز من أكثر من ثلاثمائة وجه ، وقد ذكرناها فيما تقدم فسلم لهم النقل واتفاق السلف ، فكيف والعقل الصريح من جانبهم ، كما تقدم تقريره ، فإن من لا يفعل شيئا ولا يتمكن من فعل يقوم به بمنزلة الجماد .

التاسع : أن هذا الذي ادعوا حذفه وإضماره يلزمهم فيه كما لزمهم فيما أنكروه ، فإنهم إذا قدروا وجاء أمر ربك ويأتي أمره ويجيء أمره وينزل أمره ، فأمره هو كلامه وهو حقيقة ، فكيف تجيء الصفة وتأتي وتنزل دون موصوفها ، وكيف ينزل الأمر ممن ليس هو فوق سماواته على عرشه .

ولما تفطن بعضهم لذلك قال : أمره بمعنى مأموره ، فالخلق والرزق بمعنى المخلوق والمرزوق فركب مجازا على مجاز بزعمه ولم يصنع شيئا ، فإن مأموره هو الذي يكون ويخلق بأمره وليس له عندهم أمر يقوم به ، فلا كلام يقوم به ، وإنما ذلك مجاز الكناية عن سرعة الانفعال بمشيئته تشبيها بمن يقول : كن ، فيكون الشيء عقيب تكوينه ، فركبوا مجازا على مجاز ولم يصنعوا شيئا ، فإن هذا المأمور الذي يأتي إن كان ملكا فهو داخل في قوله : ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) وإن كان شيئا غير الملك فهو آية من آياته فيكون داخلا في قوله : ( أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) .

العاشر : أن ما ادعوا من الحذف والإضمار إما أن يكون في اللفظ ما يقتضيه ويدل عليه أولا ، فإن كان الثاني لم يجز ادعاؤه ، وإن كان الأول كان كالملفوظ به ، وعلى التقديرين فلا يكون مجازا ، فإن المدلول عليه يمتنع تقديره .

التالي السابق


الخدمات العلمية