الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 287 ] وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة : منها أن " كرامات الأولياء " سببها الإيمان والتقوى و " الأحوال الشيطانية " سببها ما نهى الله عنه ورسوله .

                وقد قال تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية . ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد .

                ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث [ ص: 288 ] به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين .

                ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له : أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل على زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته .

                ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال : إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله - أي غسل الميت - غاب وكان ذلك شيطانا وكان قد أضل الميت وقال : إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك .

                [ ص: 289 ] ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول .

                ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر : إما الصديق رضي الله عنه أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر .

                وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه .

                إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان [ ص: 290 ] بالجبت والطاغوت .

                والجبت السحر والطاغوت الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته .

                ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } " .

                وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال : " { إن من آمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله .

                لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
                } " .

                وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال " { إن أولئك إذا مات فيهم [ ص: 291 ] الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيها تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } " .

                وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال " { إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد } " وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } " وفي الموطأ عنه أنه قال " { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } " .

                وفي السنن عنه أنه قال " { لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } " .

                وقال صلى الله عليه وسلم " { ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } " وقال صلى الله عليه وسلم " { إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام } " وقال صلى الله عليه وسلم " { أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ; فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد [ ص: 292 ] أرمت - أي بليت ؟ - فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } " .

                وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان .

                فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ; لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين فسد هذا الباب .

                والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها - كما يفعل أهل دعوة الكواكب - فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو شيطان والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين [ ص: 293 ] وكذلك من استغاث بميت أو غائب وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد ويروون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو : " { إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور } " وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك .

                ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين : مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه .

                يفعل الشيطان هذا ليضلهم وإذ قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا فإن التوحيد يطرد الشيطان ; ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال : لا إله إلا الله فسقط ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان .

                وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية