الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 245 ] السبب الثالث : التبذير ; لقوله تعالى : " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا " الآية المتقدمة ، فجعله تعالى مسلوب العبارة في الإقرار ، ومن سقط إقراره حجر عليه . وفي الكتاب : المبذر لماله سرفا في لذاته من الشراب والفسق وغيرهما ، ويسقط في ذلك سقوط من لا يعد المال شيئا يحجر عليه دون المصلح لماله الفاسق في دينه ، وإن كان له مال عند وصي قبضه ; لأن أثر الحجر صون المال ، وهو مصدق ، قال ابن يونس : قال أشهب : لا يحجر على الكبير إلا في البين التبذير ، قال ابن القاسم : ، بل على الكل من لو كان له وصي لم يعط له ماله ، وكذلك من دفع إليه ماله ، ثم بذر ، ووافقنا ( ش ) ، وابن حنبل ، وقال ( ح ) : لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل ، وإن بلغ مبذرا دفع إليه ماله بعد خمس وعشرين سنة ، وللمسألة أصلان : أحدهما : أن انتفاء ثمرة العقل كانتفائه عندنا ، وعنده المعتبر أصل العقل . وثانيهما : الحجر يثبت بالشرع تارة ، وبحكم الحاكم أخرى كالولاية ، وعنده بالشرع فقط .

                                                                                                                لنا : الآية المتقدمة ، ولا يصح قولهم : السفيه المجنون ; لأن السفه يقابل بالرشد ، والجنون يقابل بالعقل ، والسفيه ليس برشيد ، والضعيف الصبي ، والذي لا يستطيع أن يمل : المجنون ، نفيا للترادف ، وقوله تعالى : " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " ، قال المفسرون قولين : أموالنا وأموالهم فعلى الأولى ، يدل بطريق الأولى ; لأنا إذا حجر علينا في أموالنا لهم أولى أموالهم ، وعلى الثاني : فهو المقصود ، ويكون مثل قوله : " ولا تقتلوا أنفسكم " ، و : " فسلموا على أنفسكم " أي لا يقتل بعضكم بعضا ، ويسلم بعضكم على بعض ; ولأنه إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - . فقد مر عثمان - رضي الله عنه - بأرض سبخة اشتراها عبد الله بن جعفر بستين ألف درهم ، فقال : ما يسرني أن تكون لي بنعل ، [ ص: 246 ] ( ثم لقي عليا فقال : أما تقبض على يد ابن أخيك ؛ اشترى أرضا ما يسرني أن أتملكها بنعلي ) فقال علي : لأحجرن عليه ، ففزع عبد الله بن جعفر إلى الزبير بن العوام وأخبره بذلك ، فقال له الزبير : لا تبالي وأنا شريكك ، ثم جاء علي إلى عثمان فسأله الحجر عليه . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ؟ ولم ينكر منهم أحد ذلك . فكان إجماعا ، وهذا هو المعهود في السلف والخلف ، ولو صح ما قاله ( ح ) لقال له الزبير : لا يحجر على بالغ .

                                                                                                                ولا يقال : هذا حجة عليكم ; لأن التبذير وجد وما حصل حجر ، بل ينبغي الحجر على الزبير مع عبد الله لما ذكرتم .

                                                                                                                لأنا نقول : لما اقتسما الغبن صار نصيب كل واحد بغبن الرشيد في مثله ، وأما قول عثمان - رضي الله عنه - : لا يسرني بنعل ، أي ما رغبته ، والعقلاء الرشداء تختلف رغباتهم اختلافا شديدا ; ولأنه معني لو قارن البلوغ منع دفع المال ، فكذلك إذا طرأ بعده كالجنون .

                                                                                                                احتجوا بقوله تعالى : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " ، والأشد خمس وعشرون سنة . ومفهومه : أنه لا يقرب بعد الأشد وهو المطلوب ; ولأن حقوق الأبد أن تتعلق به فأولى الأموال ، ويقبل إقراره في نفسه بالجنايات فأولى في ماله ، ولأن الآية التي تمسك بها الخصم تدل لنا ; لقوله تعالى : " ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " إلى قوله تعالى " فليملل وليه " ، فمقتضاها أن السفيه يداين ويعامل .

                                                                                                                [ ص: 247 ] والجواب عن الأول : أن الأشد البلوغ ، وعن الثاني : يبطل فالعبد والمريض محجور عليهما في المال دون النفس ، والسر أن الوازع الطبيعي يمنع من الإقرار بالقصاص والحدود ، ويحث على اللذات والشهوات ; فلذلك حمل إقراره في الأبدان على تحقق السبب الشرعي بخلاف المال ، وعن الثالث : أن الاستثناء أخرج هؤلاء الثلاثة عن المداينة ، ولا يصح قولهم : الهاء في ( وليه ) للحق ; لأن إقرار صاحب الحق لا يوجب شيئا ، ولأنه جمع الثلاثة بحرف العطف ، والصبي والمجنون يقر عنه وليه بالبيع والشراء وقبض الثمن ، والسلم فكذلك المبذر ; لأن العطف يقتضي التسوية ، قال مالك : ولا يتولى الحجر إلا القاضي دون صاحب الشرط ، أمر مختلف فيه فيحتاج إلى اجتهاد في الاختبار ، ومن أراد الحجر على ولده أتى به الإمام ليحجر عليه ، ويشهره في الأسواق والجامع ، ويشهد على ذلك ، فمن عامله بعد ذلك فهو مردود . قال بعض البغداديين : ولا يزول الحجر عن محجور عليه بحكم أو بغير حكم إلا بحكم حاكم ، للحاجة للاختبار وتحقق إبطال سبب الحجر ، وفي الجواهر : يزول الحجر عن المبذر إذا عرف منه زوال ذلك .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : إذا تصرف من يستحق الحجر قبل الحجر نفذه ابن كنانة ، وابن نافع ; لعدم حجر الحاكم ; لأنه العلة عندهم ، وأبطله ابن القاسم لوجود السفه ، ورده مطرف إن لم يأت عليه حالة رشد ; لأنه لم يزل في ولاية وإلا نفذ ، إلا أن يكون بيعة خديعة فيبيع ما يسوي ألفا بمائة ، ففرق بين هبته وبيعه ، قال : والصواب رد الهبة ، ويضمنها الموهوب له إن صون بها ماله ، وفي الجواهر : وقيل : يرد تصرفه إن كان ظاهر التصرف وإلا فلا ، لقلة الفساد وعكسه لو رشد ، ولم ينفك الحجر عنه ، فيختلف فيه هل يراعى السفه - وقد زال - أو حجر الحاكم وهو باق .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في المقدمات : السفيه البالغ يلزمه جميع حقوق الله تعالى التي أوجبها على [ ص: 248 ] عباده في بدنه وماله من الحد والقصاص والطلاق . وقال أبو يوسف ، وابن أبي ليلى : لا يقع الطلاق ; لأنه أمر تقع المعاوضة عليه فهو تصرف في المال بغير عوض ، وينظر له وليه إن رأى كفر عنه بالعتق ، ويمسك عليه امرأته - فعل ، أو يعتق أو يفرق بينهما ، ولا يجيزه الصيام ولا الإطعام إن حمل ماله العتق ، وقال محمد : إذا لم ير له وليه أن يكفر عنه بالعتق فله هو أن يكفر بالصيام ، ولا يطلق عليه في مذهبه حتى يضرب له أجل الإيلاء إن طلبته المرأة ، ولا حد في ذلك عند ابن القاسم ، وقال ابن كنانة : لا يعتق عنه وليه إلا في أول مرة ; لأن المرة الواحدة تقع للعاقل والسفيه . وقال محمد : وأما الإيلاء إن دخل عليه بسبب يمين بالطلاق هو فيها على حنث ، أو بامتناع وليه من التكفير في الظهار - لزمه ، وأما إن حلف على ترك الوطء بعتق أو صدقة مما يدخل تحت الحجر لم يلزمه الإيلاء ، أو بالله تعالى لزمه الإيلاء إن لم يكن له مال ولم يلزمه إن كان له ، أو بصيام أو صلاة مما يلزمه الإيلاء ، وعلى قول محمد : يلزمه الإيلاء باليمين بالله تعالى وإن كان له مال ، ولا يلزمه تبرع ولا عتق ولا معروف في ماله إلا أن يعتق أم ولد ; لأنه كالطلاق إذ ليس فيها إلا الاستمتاع ، وفي تبعية مالها لها ثلاثة أقوال : يتبعها عند مالك وأشهب ، لا يورث بشهادة النساء على النسب فلا يثبت الأصل ويثبت الفرع ، فالتبع أمره خفيف ، ولا يتبعها عند ابن القاسم ; لأن تصرفه لا ينفذ في المال ، ويتبع القليل فقط عند أصبغ . وقال المغيرة : لا يلزمه عتقها ; لأنه معروف نشأ عن المال ، ولو قتلت لأخذ قيمتها ، ولا ينفذ إقراره بالدين إلا في المرض فيكون في الثلث ، وبيعه وشراؤه وزواجه من المعاوضات موقوف على إجازة وليه ورده ، ويجتهد له في ذلك ، فإن لم يكن ولي فالقاضي ، فإن لم يفعل حتى رشد يخير هو في ذلك ، فإن رد بيعه أو شراؤه وقد تلف الثمن لم يتبع ماله بشيء ، فإن أولد الأمة فقيل : فوت ، وقيل : لا . كالعتق وترد ، ولا يكون عليه من قيمة الولد شيء ، فإن أنفق الثمن فيما لا بد له منه ، ففي اتباع ماله به قولان .

                                                                                                                [ ص: 249 ] فإن باع أمة ، فأولدها المشتري ، أو أعتقها ، أو غنما فتناسلت ، أو بقعة فبناها ، أو ما يغتل فاغتله فهو كمن استحق من يده بعد إحداث ذلك فيه ، ترد الأمة وينقض العتق ، ويأخذ الأمة التي ولدت ، وقيمة الولد على الخلاف المعلوم ، وإن كان الولد من غيره بتزويج أخذه مع الأم ، ويأخذ الغنم ونسلها ، وعليه قيمة البناء قائما في البنيان ، وتكون الغلة بالضمان ، هذا كله إن لم يعلم أنه مولى عليه ، وإلا فحكمه حكم الغاصب يرد الغلة وله قيمة البناء منقوضا ، وفي رد ما فات بالبيع والهبة والعتق والصدقة ولم يعلم به حتى مات هل يرد بعد الموت ؟ قولان .

                                                                                                                وإن تزوج ولم يعلم الولي بنكاحه هل ترثه المرأة وتأخذ الصداق ؟ أقوال : لا ترث ولا صداق إلا أن يدخل بقدر ما يستحل به فرجها ، وتأخذ الميراث ، والصداق ، وترث . وإن كان النكاح غبطة فلها الصداق ، دخل أم لا ، أو على وجه الغبطة ردت الصداق إلا ربع دينار إن دخل بها ، وإلا فلا ، قاله أصبغ ، والقولان المتقدمان لابن القاسم ، وذلك مبني هل فعله على الجواز حتى يرد ، أو على الرد حتى يجاز ؟ وهل يزوجه بغير أمره كالصغير أو إلا بأمره ؟ قولان من المدونة . وكذلك المخالعة بغير إذنه أو إلا بإذنه وهو في المدونة . ويلزمه ما أتلف اتفاقا ، فإن أوتمن عليه فخلاف ، ولا يحلف إذا ادعي عليه في ماله ، بخلاف ما يجوز فيه إقراره ويحلف مع شاهده ويستحق ، وإن نكل حلف المدعى عليه وبرئ عند ابن القاسم ، وعند ابن كنانة : إن نكل فكذلك إلا أن يحسن حاله ، فيكون له أن يحلف ويستحق كالصغير يبلغ ويعقل مع المعاملة . ويجوز عفوه عن دمه خطأ أو عمدا ; لأنه ليس بماله وفي دون النفس من الجراح نفذه ابن القاسم ; لأن أصله ليس بمال ، ورده عبد الملك ; لأنه يصالح عليه بالمال واختلف في شهادته إذا كان مثله لو طلب ماله أخذه وهو عدل ، جوزها مالك وردها أشهب . [ ص: 250 ] فرع

                                                                                                                في الجواهر : إذا استدان المحجور بغير إذن الولي ، ثم فك حجره لم يلزمه ذلك إن حجر عليه لحق نفسه ، والصغير دون من حجر عليه لغيره كالعبد يعتق إلا أن يفسخه عنه سيده قبل عتقه . فرع

                                                                                                                قال الأبهري قال مالك : ليس على الولي الإنكار على من يعامل مال المحجور ; لأن المعامل إن علم فهو المفرط ، وإلا فعليه التعرف . فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : إذا باع المولى عليه ثوبا فتداولته الأملاك فصبغه الأخير قوم على المبتاع أبيض بغير صبغ ، ويتراجعون الأثمان فيما بينهم ، ويؤخذ الثوب إن وجد ; لأنه لم يزل عن ملكه ، وإلا فعلى الذي تلف عنده قيمته إن تلف بصبغه ، ولا يلزم المحجور عليه شيء في ذلك ; لأن المشتري منه أتلف ماله ، والذي صبغ شريك في الثوب بما زاد . فرع

                                                                                                                قال : قال مالك : إذا اكترى دابة فتعدى عليها فتلفت ، فلا ضمان عليه ; لأن صاحبها هو متلفها حيث سلمها له ، وإن لم يعلم فقد فرط في عدم التعرف . فرع

                                                                                                                في النوادر قال عبد الملك : إذا بعت مولى وأخذت حميلا بالثمن فرد ذلك السلطان ، وأسقطه عن المولى ، فإن جهلت أنت والحميل حاله لزمت الحمالة ; لأنه أدخلك فيما لو شئت كشفته ، وإن دخلت في ذلك بعلم سقطت الحمالة علم الحميل أم لا لبطلان أصلها . [ ص: 251 ] فرع

                                                                                                                قال : قال عبد الملك : إذا دفعت إلى مولى عليه دنانير سلما في سلعة فاشترى بها اليتيم سلعة أو وهبها رجلا فلك أخذ الدنانير بعينها من الثاني . قال عيسى : ولو اشترى بها أمة فأحبلها فهي له أم ولد ، وليس لك أخذها في مالك ، وترد أنت السلعة ، ولو ابتاع هو أمة فأولدها ردها - والولد ولده - بغير قيمة عليه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية