الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نفست المرأة وعبر الدم الستين فحكمها حكم الحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرد إلى التمييز والعادة والأقل والغالب لأنه بمنزلة الحيض في أحكامه فكذلك في الرد عند الإشكال ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا عبر دم النفساء الستين ففيه طريقان ، : أصحهما أنه كالحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرد إلى التمييز إن كانت مميزة أو العادة إن كانت معتادة غير مميزة أو الأقل أو الغالب إن كانت مبتدأة غير مميزة ، ووجهه ما ذكره المصنف ، وبهذا الطريق قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وإمام الحرمين والغزالي والأكثرون ، والطريق الثاني حكاه المحاملي وابن الصباغ والمتولي والبغوي والشيخ نصر وآخرون من العراقيين والخراسانيين : أن في المسألة ثلاثة أوجه ، أصحها باتفاقهم أنه كالطريق الأول .

                                      ( والثاني ) [ ص: 547 ] أن الستين كلها نفاس وما زاد عليه استحاضة ، وبه قطع ابن القاص في المفتاح واختاره المزني حكاه أصحابنا عنه ، قال الماوردي : قاله المزني في جامعه الكبير وفرقوا بينه وبين الحيض بأن الحيض محكوم به من حيث الظاهر وليس مقطوعا به فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر ، والنفاس مقطوع به فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بيقين وهو مجاوزة الأكثر .

                                      قال الرافعي : وهذا القائل يجعل الزائد استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد إن كانت معتادة أو المردودة إليه إن كانت مبتدأة ثم ما بعده .

                                      ( والوجه الثالث ) أن الستين نفاس والذي بعده حيض على الاتصال به ، لأنهما دمان مختلفان ، فجاز أن يتصل أحدهما بالآخر ، وبهذا الوجه قال أبو الحسن بن المرزباني قال صاحب التتمة والعدة وغيرهما : فعلى هذا إن زاد الدم بعد الستين حكمنا بأنها مستحاضة في الحيض .

                                      قال أصحابنا : وهذا الوجه ضعيف جدا ، وهو أضعف من الذي قبله ، قال أصحابنا وأصل هذين الوجهين أنه هل يصح أن يتصل دم الحيض بدم النفاس ؟ أم لا بد من طهر فاصل بينهما ؟ وفيه وجهان مشهوران . قال صاحب الحاوي وغيره : حكاهما أبو إسحاق المروزي في كتابه المصنف في الحيض ، قال صاحب الشامل وغيره : وهما مبنيان على الوجهين فيما لو رأت الحامل خمسة أيام دما ; ثم ولدت قبل مجاوزة خمسة عشر ، وقلنا : الحامل تحيض ، فهل تكون الخمسة عشر حيضا أم لا ؟ وقد سبق بيانه ، فأحد الوجهين في المسألتين من يقول : لا يتصل الحيض بالنفاس كما لا يتصل حيض بحيض ، والثاني : يتصل لاختلافهما . ثم إن هؤلاء الجماعة الذين حكوا الأوجه الثلاثة أطلقوها وخصص الشيخ أبو حامد وآخرون الأوجه بغير المميزة ، وقطعوا بأن المميزة ترد إلى التمييز .

                                      أما إذا قلنا بالمذهب ، وهو أنها كالحائض إذا عبر دمها خمسة عشر ، فقال أصحابنا : إن كانت معتادة غير مميزة وذكرت عادتها فقالت : كنت أنفس أربعين يوما مثلا ردت إلى عادتها وكان نفاسها أربعين ، وهل يشترط تكرر العادة ؟ فيه الخلاف السابق في الحيض ، والأصح أنه لا يشترط بل تصير معتادة بمرة واحدة فإذا ردت إلى العادة في النفاس فلها في الحيض حالتان : ( إحداهما ) أن تكون معتادة في الحيض أيضا فيحكم لها بالطهر بعد [ ص: 548 ] الأربعين على قدر عادتها في الطهر ، ثم تحيض على قدر عادتها في الحيض ثم تستمر كذلك .

                                      ( الحالة الثانية ) أن تكون مبتدأة في الحيض فيجعل لها بعد الأربعين دور المبتدأة في الطهر والحيض ، وقد سبق بيان الخلاف في قدر دور المبتدأة ويكون الطهر متصلا بالأربعين والحيض بعده ، فلو كانت قد ولدت مرارا وهي ذات جفاف ثم ولدت مرة ونفست وجاوز دمها الستين . قال أصحابنا : لا نقول عدم النفاس عادة لها بل هي مبتدأة في النفاس كالتي لم تلد قط ، أما المبتدأة في النفاس غير المميزة إذا جاوز دمها الستين وهي غير مميزة ففيها القولان السابقان في الحيض ، أصحهما : الرد إلى أقل النفاس ، وهو لحظة لطيفة نحو مجة ( والثاني ) الرد إلى غالبه وهو أربعون يوما هكذا قاله الجمهور ، وزاد صاحب العدة قولا ثالثا وهو أنها ترد إلى أكثر النفاس وهو ستون يوما ، وهذا غريب عن الشافعي ، وإنما نقله الأصحاب عن المزني مذهبا للمزني وحكاه الشيخ أبو حامد وغيره لبعض أصحابنا ، وحكى المحاملي في المجموع وغيره من أصحابنا طريقا آخر عن ابن سريج وأبي إسحاق وهي الرد إلى الأقل قولا واحدا فحصل ثلاثة طرق ، والصحيح المشهور ما سبق من القولين ، فإذا علم حالها في مردها في النفاس فلها في الحيض حالتان إحداهما أن تكون معتادة فيجعل لها بعد مرد النفاس قدر عادتها في الطهر طهرا ثم بعده قدر عادتها في الحيض حيضا ثم تستمر كذلك .

                                      ( الحالة الثالثة ) أن تكون مبتدأة في الحيض أيضا فقدر مردها في الطهر والحيض كالمعتادة ، أما المبتدأة المميزة فترد إلى التمييز بشرط ألا يزيد القوي على أكثر النفاس ، وأما المعتادة المميزة فهل يقدم تمييزها ؟ أم العادة ؟ فيه الخلاف السابق في مثله في الحيض ، والأصح تقديم التمييز .

                                      وأما المعتادة الناسية لعادتها في النفاس ففيها الخلاف في المتحيرة في الحيض ففي قول هي كالمبتدأة فترد إلى اللحظة في قول ، وإلى أربعين يوما في قول ، وعلى المذهب تؤمر بالاحتياط ، رجح إمام الحرمين هنا الرد إلى مرد المبتدأة ، لأن أول النفاس معلوم ، وتعيين أول الهلال للحيض تحكم لا أصل له . قال الرافعي : إذا قلنا بالاحتياط فإن كانت مبتدأة في الحيض وجب الاحتياط أبدا لأن أول حيضها مجهول ، وقد سبق أن المبتدأة إذا جهلت [ ص: 549 ] ابتداء دمها كانت كالمتحيرة ، وإن كانت معتادة في الحيض ناسية لعادتها استمرت أيضا على الاحتياط أبدا . وإن كانت ذاكرة لعادة الحيض فقد التبس عليها الدور لالتباس آخر النفاس ، فهي كمن نسيت وقت الحيض دون قدره ، وقد سبق بيانها والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال الفوراني والبغوي وصاحب العدة وغيرهم : الصفرة والكدرة في زمن النفاس حكمهما حكمهما في زمن الحيض ، فإذا اتصلت صفرة أو كدرة بالولادة ولم تجاوز الستين فإن وافق عادتها فنفاس وإلا ففيه الخلاف كما في الحيض . والأصح أنه نفاس ، وقال صاحب الحاوي : هو نفاس بلا خلاف لأن الولادة شاهدة للنفاس فلم يشترط شاهد في الدم بخلاف الحيض قال : وسواء المبتدأة وغيرها والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية