الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين )

النسوة بكسر النون فعلة ، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه ، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع . وقال الزمخشري : النسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير حقيقي ، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث ، انتهى . وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز : قامت الهنود ، وقام الهنود ، وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع ، وتكسيره للكثرة على نسوان ، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضا ، ولا واحد له من لفظه .

شغف : خرق الشغاف ، وهو حجاب القلب ، وقيل : سويداؤه ، وقيل : داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب ، وكسر الغين لغة تميم ، وقيل : الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب ، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه ، ومنه قول الأعشى :


يعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزين للمشغوف ما صنعا

وقد تكسر غينه ، المتكأ : الوسادة والنمرقة . المتك : الأترج ، والواحد متكة قال الشاعر :


فأهدت متكة لهي أبيها

وقيل : اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه . قال :


يشرب الإثم بالصواع جهارا     ونرى المتك بيننا مستعارا

وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي : قطعه . وقال صاحب اللوامح : المتك بالضم عند الخليل العسل ، وعند الأصمعي الأترج . وقال أبو عمر : والشراب الخالص ، وقال أبو عمر : وفيه ثلاث لغات ، المتك بالحركات الثلاث . وقيل : بالكسر الخلال ، وقيل : بل المسك . وقال الكسائي أيضا : فيه اللغات الثلاث ، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة ، وقال أيضا : قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد . [ ص: 300 ] وقال الفضل : في اللغات الثلاث هو البزماورد ، وكل ملفوف بلحم ورقاق ، وقال أيضا : المتك بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كندة ، السكين : تذكر وتؤنث ، قاله الفراء والكسائي ، ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير ، حاش : قال الفراء من العرب من يتمها ، وفي لغة الحجاز : حاش لك ، وبعض العرب : حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد ، وهي في أهل الحجاز ، انتهى . وقال الزمخشري : حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشا زيد ، قال :


حاشا أبي ثوبان أن لنا     ضنا عن الملحاة والشتم

وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاش الله : براءة الله ، وتنزيه الله ، انتهى . وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرق بين قولك ، قام القوم إلا زيدا ، وقام القوم حاشى زيد ، ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة ، جعل ذلك مستفادا منها في كل موضع ، وأما ما أنشده من قوله : حاشى أبي ثوبان ، فكذا ينشده ابن عطية وأكثر النحاة ، وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر ، وهما من بيتين ، وهما : حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم


عمرو بن عبد الله إن به     ضنا عن الملحاة والشتم

عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة . الخبز : معروف ، وجمعه أخباز ، ومعانيه خباز . البضع : ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة . وقال مجاهد : من الثلاثة إلى السبعة . وقال أبو عبيدة : البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد ، وإنما هو من الواحد إلى العشرة ، وقال الفراء : ولا يذكر البضع إلا مع العشرات ، ولا يذكر مع مائة ولا ألف ، السمن : معروف وهو مصدر سمن يسمن ، واسم الفاعل سمين ، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس ، العجفاء : المهذولة جدا قال :


ورجال مكة مستنون عجاف

الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو من أخلاط النبات والعشب ، فمن جنس واحد ما روي في قوله : ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ) إنه أخذ عثكالا من النخل ، وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل ، وقال ابن مقبل :


خود كأن فراشها وضعت به     أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها : ضغث على إمالة .

( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين )

لم تلحق تاء التأنيث ؛ لأنه جمع تكسير [ ص: 301 ] المؤنث ، ويجوز فيه الوجهان ، ونسوة كما ذكرنا جمع قلة ، وكن على ما نقل خمسا : امرأة خبازة ، وامرأة ساقية ، وامرأة بوابة ، وامرأة سجانة ، وامرأة صاحب دوابه ، ( في المدينة ) هي مصر ، ومعنى ( في المدينة ) أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف ، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع ؛ لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم ، وعبرت بـ ( تراود ) وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها ، تخادعه دائما عن نفسه كما تقول : زيد يعطي ويمنع ، ولم يقلن : راودت فتاها ، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حبا ؛ أي : بلغ حبه شغاف قلبها ، وانتصب ( حبا ) على التمييز المنقول من الفاعل كقوله : ملأت الإناء ماء ، أصله ملأ الماء الإناء ، وأصل هذا شغفها حبه ، والفتى الغلام وعرفه في المملوك ، وفي الحديث : " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي " وقد قيل في غير المملوك ، وأصل الفتى في اللغة الشاب ، ولكنه لما كان جل الخدمة شبانا استعير لهم اسم الفتى ، وقرأ ثابت البناتي : ( شغفها ) بكسر الغين المعجمة ، والجمهور بالفتح ، وقرأ علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد والشعبي وعوف الأعرابي : بفتح العين المهملة ، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم ، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة ، قال ابن زيد : الشغف في الحب ، والشعف في البغض ، وقال الشعبي : الشغف والمشغوف بالغين المنقوطة في الحب ، والشغف الجنون ، والمشعوف المجنون ، وأدغم النحويان وحمزة وهشام وابن محيصن دال ( قد ) في شين ( شغفها ) ثم نقمن عليها ذلك فقلن : ( إنا لنراها في ضلال مبين ) أي : في تحير واضح للناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية