الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل وقد ضبط الشيخ في " المغني " هذا الباب بضابط آخر ، فقال : فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء .

وأولى الكل بها : الأم ، ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب ؛ لأنهن نساء ولادتهن متحققة ، فهن في معنى الأم ، وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها يقدمن على أم الأم ، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم ؛ لأنهن يدلين به ، فيكون الأب [ ص: 401 ] بعد الأم ، ثم أمهاته ، والأولى هي المشهورة عند أصحابنا ، فإن المقدم الأم ، ثم أمهاتها ، ثم الأب ، ثم أمهاته ، ثم الجد ، ثم أمهاته ، ثم جد الأب ، ثم أمهاته وإن كن غير وارثات ؛ لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة ، بخلاف أم أب الأم . وحكي عن أحمد رواية أخرى : أن الأخت من الأم والخالة أحق من الأب ، فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ، ومنهما ، ومن جميع العصبات ، والأولى هي المشهورة من المذهب ، فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات ، وتقدم الأخت من الأبوين ، ثم الأخت من الأب ، ثم الأخت من الأم ، وتقدم الأخت على الأخ ؛ لأنها امرأة من أهل الحضانة ، فقدمت على من في درجتها من الرجال ، كالأم تقدم على الأب ، وأم الأب على أب الأب ، وكل جدة في درجة جد تقدم عليه ؛ لأنها تلي الحضانة بنفسها ، والرجل لا يليها بنفسه .

وفيه وجه آخر : أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه ، والأول أولى ، وفي تقديم الأخت من الأبوين ، أو من الأب على الجد وجهان ، وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ، ثم الأخ للأب ، ثم ابناهما ، ولا حضانة للأخ من الأم لما ذكرنا .

فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح ، وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ، ولا حضانة للأخوال ، فإذا عدموا صارت للعمات ، ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الإخوة ، ثم للعم للأبوين ، ثم للعم للأب ، ولا حضانة للعم من الأم ، ثم ابناهما ، ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي ، وعلى القول الآخر : إلى خالات الأم ، ثم إلى عمات الأب ، ولا حضانة لعمات الأم ؛ لأنهن يدلين بأب الأم ، ولا حضانة له . وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة ، انتهى كلامه .

وهذا خير مما قبله من الضوابط ، ولكن فيه تقديم أم الأم ، وإن علت على الأب وأمهاته ، فإن طرد تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازم الباطلة ، وهو لم يطرده ، وإن قدم بعض من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل - طولب بالفرق وبمناط التقديم .

[ ص: 402 ] وفيه إثبات الحضانة للأخت من الأم دون الأخ من الأم ، وهو في درجتها ومساو لها من كل وجه ، فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر ، انتقض برجال العصبة كلهم ، وإن كان ذلك لكونه ليس من العصبة ، والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون من العصبة . قيل : فكيف جعلتموها لنساء ذوي الأرحام مع مساواة قرابتهن لقرابة من في درجتهن من الذكور من كل وجه ؟ فإما أن تعتبروا الأنوثة فلا تجعلوها للذكر ، أو الميراث فلا تجعلوها لغير وارث ، أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخ من الأم والخال وأبا الأم أو التعصيب ، فلا تعطوها لغير عصبة .

فإن قلتم : بقي قسم آخر وهو قولنا ، وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء .

قيل : هذا مخالف لباب الولايات ، وباب الميراث ، والحضانة ولاية على الطفل ، فإن سلكتم بها مسلك الولايات فخصوها بالأب والجد ، وإن سلكتم بها مسلك الميراث فلا تعطوها لغير وارث ، وكلاهما خلاف قولكم وقول الناس أجمعين .

وفي كلامه أيضا : تقديم ابن الأخ وإن نزلت درجته على الخالة التي هي أم ، وهو في غاية البعد ، وجمهور الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح ، فإن الخالة أخت الأم ، وبها تدلي ، والأم مقدمة على الأب ، وابن الأخ إنما يدلي بالأخ الذي يدلي بالأب ، فكيف يقدم على الخالة ! وكذا العمة أخت الأب وشقيقته ، فكيف يقدم ابن ابنه عليها !

وقد ضبط هذا الباب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بضابط آخر ، فقال : أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال : لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومهم بهذه الصفات وهم أقاربه يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة . فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا ، فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر ، فتقدم الأم على الأب ، والجدة على [ ص: 403 ] الجد ، والخالة على الخال ، والعمة على العم ، والأخت على الأخ . فإن كانا ذكرين أو أنثيين ، قدم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما ، وإن اختلفت درجتهما من الطفل ، فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه ، فتقدم الأخت على ابنتها ، والخالة على خالة الأبوين ، وخالة الأبوين على خالة الجد، والجدة والجد أبو الأم على الأخ للأم ، هذا هو الصحيح ؛ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها . وقيل يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث . والوجهان في مذهب أحمد .

وفيه وجه ثالث : أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال ؛ لأنه ليس من العصبات ، ولا من نساء الحضانة ، وكذلك الخال أيضا ، فإن صاحب هذا الوجه يقول : لا حضانة له ، ولا نزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى من الخال ، وإن كانوا من جهتين ، كقرابة الأم وقرابة الأب ، مثل العمة والخالة ، والأخت للأب ، والأخت للأم ، وأم الأب ، وأم الأم ، وخالة الأب ، وخالة الأم قدم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه . هذا كله إذا استوت درجتهم ، أو كانت جهة الأب أقرب إلى الطفل ، وأما إذا كانت جهة الأم أقرب ، وقرابة الأب أبعد ، كأم الأم ، وأم أب الأب ، وكخالة الطفل ، وعمة أبيه ، فقد تقابل الترجيحان ، ولكن يقدم الأقرب إلى الطفل لقوة شفقته وحنوه على شفقة الأبعد ، ومن قدم قرابة الأب ، فإنما يقدمها مع مساواة قرابة الأم لها ، فأما إذا كانت أبعد منها قدمت قرابة الأم القريبة ، وإلا لزم من تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقول بها أحد ، فبهذا الضابط يمكن حصر جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي ، واطرادها وموافقتها لأصول الشرع ، فأي مسألة وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضابط ، مع كونه مقتضى الدليل ، ومع سلامته من التناقض ومناقضة قياس الأصول ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية