الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1134 - مسألة : ومن حلف عامدا للكذب فيما يحلف ، فعليه الكفارة - وهو قول الأوزاعي ، والحسن بن حي ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا كفارة في ذلك - وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          وروينا مثل قولنا عن السلف المتقدم من طريق شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة [ ص: 289 ] عن الرجل يحلف بالحلف الكاذب ؟ أفيه كفارة ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق هشيم عن الحجاج عن عطاء بن أبي رباح فيمن حلف على كذب يتعمد فيه الكذب ، قال عطاء : عليه الكفارة ، ولا يزيد بالكفارة إلا خيرا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } قال : بما تعمدتم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله تعالى { : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } قال : بما تعمدتم فيه المأثم .

                                                                                                                                                                                          وقال سعيد بن جبير : هي اليمين في المعصية .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر في الرجل يحلف على أمر يتعمده كاذبا يقول : والله لقد فعلت ، ولم يفعل ، أو والله ما فعلت ، وقد فعل ، قال : أحب إلي أن يكفر .

                                                                                                                                                                                          وروينا القول الثاني من طريق رفيع أبي العالية : أن ابن مسعود كان يقول : كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل كاذبا على مال أخيه ليقتطعه .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم النخعي ، والحسن ، وحماد بن أبي سليمان : أن هذا اليمين أعظم من أن تكفر أو أنها كذبة ، لا كفارة فيها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من لم ير الكفارة في ذلك بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها - من طريق ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ، } فأنزل الله تعالى تصديق ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم { : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر عليه السلام فيهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم { الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق [ ص: 290 ] الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار } .

                                                                                                                                                                                          وزاد بعضهم { ولو كان سواكا أخضر } هذه كلها آثار صحاح .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا : خبرا صحيحا من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { : من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } .

                                                                                                                                                                                          وبخبر : روينا من طريق ابن الجهم نا يوسف بن الضحاك نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : فعلت كذا وكذا ؟ قال : لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت ، فجاء جبريل عليه السلام فقال : بلى قد فعل ، لكن الله غفر له بالإخلاص } .

                                                                                                                                                                                          ورواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس ، فإن لم يكن أخطأ فيه يوسف بن الضحاك فهو حديث جيد ، وإلا فهو ضعيف ؟ قالوا : فلم يأمره عليه السلام بكفارة ؟ قالوا : إنما الكفارة فيما حلف فيه في المستأنف .

                                                                                                                                                                                          وموهوا في ذلك بذكر قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } .

                                                                                                                                                                                          قالوا : وحفظها إنما يكون بعد مواقعتها .

                                                                                                                                                                                          هذا كل ما شغبوا به - وكله لا حجة لهم فيه . [ ص: 291 ] أما حديث ابن مسعود ، وأبي ذر ، وعمران ، وجابر ، والأشعث ، وقول الله تعالى { : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم } فليس في شيء من ذلك إسقاط الكفارة ولا إيجابها ، كما ليس فيها ذكر لتوبة أصلا ، وإنما فيها كلها الوعيد الشديد بالنار والعقاب - .

                                                                                                                                                                                          فسقط تعلقهم بها في إسقاط الكفارة .

                                                                                                                                                                                          ثم العجب كله أنهم في هذه الأحاديث ، وفي هذه الآية على قسمين - :

                                                                                                                                                                                          قسم يقول : إنه ليس شيء مما ذكر في هذه الآية ، وفي هذه الأحاديث - : يقطع : بكونه ولا بد ، وقد يمكن أن يغفر الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                          وقسم قالوا : هو نافذ ما لم يتب - فمن أعجب شأنا ممن احتج بآية وأخبار صحاح في إسقاط كفارة يمين ليس فيها من ذلك ذكر أصلا ، وهم قد خالفوا كل ما فيها علانية - وهذا عجب جدا ؟ وأما قوله عليه السلام : { من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة } فلا حجة لهم فيه أصلا ; لأن الأيمان عندنا وعندهم ، منها لغو لا إثم فيه ، ولم يرد هذا الصنف في هذا الخبر بلا شك .

                                                                                                                                                                                          ومنها - ما يكون المرء بها حالفا على ما غيره خير منه ولا خلاف عندنا وعندهم في أن الكفارة تغني في هذا .

                                                                                                                                                                                          وبه جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          ومنها - اليمين الغموس التي اختلفنا فيها ، وبالحس والمشاهدة ندري نحن وهم أن الحالف بها لا يسمى مستلجا في أهله ، فبطل أن يراد بهذا الخبر هذا القسم ، وبطل احتجاجهم به في إسقاطهم الكفارة في اليمين الغموس .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فما معنى هذا الخبر عندكم وهو صحيح ؟ قلنا : نعم ، معناه - ولله الحمد - بين على ظاهر لفظه دون تبديل ولا إحالة ولا زيادة ولا نقص ، وهو أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله ، أو أن لا يضر بهم ، ثم لج في أن يحنث ، فيضر بهم ، ولا يحسن إليهم ويكفر عن يمينه - فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها ، وهو أعظم إثما بلا شك - والكفارة لا تغني عنه ، ولا تحط إثم [ ص: 292 ] إساءته إليهم وإن كانت واجبة عليه - لا يحتمل ألبتة هذا الخبر معنى غير هذا .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث حماد بن سلمة ، وسفيان ، فطريق سفيان لا تصح ، فإن صحت طريق حماد فليس فيه لإسقاط الكفارة ذكر ، وإنما فيه : أن الله تعالى غفر له بالإخلاص فقط ، وليس كل شريعة توجد في كل حديث - ولا شك في أنه مأمور بالتوبة من تعمد الحلف على الكذب ، وليس في هذا الخبر لها ذكر ، فإن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة حجة في سقوطها فسكوته عن ذكر التوبة حجة في سقوطها ولا بد ، وهم لا يقولون بهذا .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد أمر بالتوبة في نصوص أخر ؟ قلنا : وقد أمر بالكفارة في نصوص أخر نذكرها إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          ونقول لهم : إن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة في هذه الأخبار كلها حجة في إسقاطها فسكوته عليه السلام عن ذكر سقوطها حجة في إيجابها ولا فرق - وهي دعوى كدعوى ; فالواجب طلب حكم الكفارة في نص غير هذه ؟ وأما قول الله تعالى { : واحفظوا أيمانكم } فحق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إن الحفظ لا يكون إلا بعد مواقعة اليمين فكذب ، وافتراء ، وبهت ، وضلال محض ، بل حفظ الأيمان واجب قبل الحلف بها ، وفي الحلف بها ، وبعد الحلف بها ، فلا يحلف في كل ذلك إلا على حق .

                                                                                                                                                                                          ثم هبك أن الأمر كما قالوا ، وأن قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } إنما هو بعد أن يحلف ، فأي دليل في هذا على أن لا كفارة على من تعمد الحلف كاذبا ؟ وهل هذا منهم إلا المباهتة والتمويه ، وتحريف كلام الله عن مواضعه وما يشك كل ذي مسكة تمييز في أن من تعمد الحلف كاذبا فما حفظ يمينه - فظهر فساد كل ما يمخرقون به .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إن الكفارة إنما تجب عليه فيما حلف عليه في المستأنف فباطل ، ودعوى بلا برهان ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا { قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه } .

                                                                                                                                                                                          فلا حجة لهم فيه ; لأن الكفارة عندهم وعندنا تجب في غير هذه الصفة ، وهي : [ ص: 293 ] من حلف على يمين ورأى غيرها شرا منها ففعل الذي هو شر ، فإن الكفارة عندهم وعندنا واجبة عليه في ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما قولهم : هي أعظم من أن تكفر فمن أين لهم هذا ؟ وأين وجدوه ؟ وهل هو إلا حكم منهم لا من عند الله تعالى ؟ ويعارضون بأن يقال لهم : دعوى أحسن من دعواهم ، بل كلما عظم الذنب كان صاحبه أحوج إلى الكفارة ، وكانت أوجب عليه منها فيما ليس ذنبا أصلا ، وفيما هو صغير من الذنوب ، وهذا المتعمد للفطر في رمضان نحن وهم متفقون على أن الكفارة عليه ، ولعله أعظم إثما من حالف على يمين غموس ، أو مثله وهم يرون الكفارة على من تعمد إفساد حجه بالهدي بآرائهم ، ولعله أعظم إثما من حالف يمين غموس أو مثله .

                                                                                                                                                                                          وأعجب من هذا كله قولهم فيمن حلف أن لا يقتل مؤمنا متعمدا ، وأن يصلي اليوم الصلوات المفروضة ، وأن لا يزني بحريمة وأن لا يعمل بالربا ، ثم لم يصل من يومه ذلك ، وقتل النفس التي حرم الله ، وزنى ، وأربى فإن عليه الكفارة في أيمانه تلك فيا لله ويا للمسلمين أيما أعظم إثما : من حلف عامدا للكذب أنه ما رأى زيدا اليوم ، وهو قد رآه فأسقطوا فيه الكفارة لعظمه .

                                                                                                                                                                                          أو من حنث بأن لا يصلي الخمس صلوات ، وبأن قتل النفس ، وبأن زنى بابنته أو بأمه ، وبأن عمل بالربا - ثم لا يرون عظم حنثه في إتيانه هذه الكبائر العظيمة التي هي والله قطعا عند كل من له علم بالدين أعظم إثما من ألف يمين تعمد فيها الكذب ، لا تجب فيه كفارة ; لأنه أعظم من أن يكفر ؟ فهل تجري أقوال هؤلاء القوم على اتباع نص أو على التزام قياس ؟ وأما تمويههم بأنه روي ذلك عن ابن مسعود ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهي رواية منقطعة لا تصح ; لأن أبا العالية لم يلق ابن مسعود ولا أمثاله من الصحابة رضي الله عنهم إنما أدرك أصاغر الصحابة كابن عباس ، ومثله ، رضي الله عن جميعهم .

                                                                                                                                                                                          وقد خالفوا ابن مسعود في قوله : إن من حلف بالقرآن ، أو بسورة منه ، فعليه بكل آية كفارة ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ; فابن مسعود حجة إذا اشتهوا ، [ ص: 294 ] وغير حجة إذا لم يشتهوا أن يكون حجة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذ قد سقط كل ما شغبوا به فلنأت بالبرهان على صحة قولنا - : فنقول وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال الله عز وجل { : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } إلى قوله تعالى { : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } .

                                                                                                                                                                                          فظاهر القرآن إيجاب الكفارة في كل يمين ، فلا يجوز أن تسقط كفارة عن يمين أصلا إلا حيث أسقطها نص قرآن ، أو سنة ، ولا نص قرآن ، ولا سنة ، أصلا في إسقاط الكفارة عن الحالف يمينا غموسا ; فهي واجبة عليه بنص القرآن .

                                                                                                                                                                                          والعجب كله ممن أسقطها عنه والقرآن يوجبها ، ثم يوجبونها على من حنث ناسيا مخطئا والقرآن والسنة قد أسقطاها عنه .

                                                                                                                                                                                          وأوجبوها على من لم يتعمد اليمين ولا نواها والقرآن والسنة يسقطانها عنه ; وهذه كما ترى .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن هذه الآية فيها حذف بلا شك ، ولولا ذلك لوجبت الكفارة على كل من حلف ساعة حلف بر أو حنث ؟ قلنا : نعم لا شك في ذلك إلا أن ذلك الحذف لا يصدق أحد في تعيينه له إلا بنص صحيح ، أو إجماع متيقن ، على أنه هو الذي أراد الله تعالى لا ما سواه ، وأما بالدعوى المفتراة فلا - : فوجدنا الحذف المذكور في الآية قد صح الإجماع المتيقن والنص على أنه فحنثتم ، وإذ لا شك في هذا فالمتعمد لليمين على الكذب عالما بأنه كذب حانث بيقين حكم الشريعة ، وحكم اللغة .

                                                                                                                                                                                          فصح إذ هو حانث أن عليه الكفارة ، وهذا في غاية الوضوح - وبالله تعالى التوفيق - والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، وقد قاسوا حالق رأسه لغير ضرورة محرما غير عاص لله تعالى .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 295 ] فهلا قاسوا الحالف عامدا للكذب حانثا عاصيا على الحالف أن لا يعصي ، فحنث عاصيا ، أو على من حلف أن لا يبر فبر : غير عاص في إيجاب الكفارة في كل ذلك ؟ ولكن هذا مقدار علمهم وقياسهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية