الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واكتب لنا أي: أثبت واقسم لنا في هذه الدنيا التي عرانا فيها ما عرانا حسنة حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ثناء جميلا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد: اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة. وفي الآخرة أي: واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم. إنا هدنا إليك أي: تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع [ ص: 76 ] وتاب كما قال:


                                                                                                                                                                                                                                      إني امرؤ مما جنيت هائد

                                                                                                                                                                                                                                      ومن كلام بعضهم:


                                                                                                                                                                                                                                      يا راكب الذنب هد     هد واسجد كأنك هدهد

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه مال، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (هدنا) بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب، وإنما هو: هدنا بالكسر، أي: ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها، قال استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال: عذابي أصيب به من أشاء أي: شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وعمرو الأسود: (من أساء) بالسين المهملة، ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وأنكر بعضهم صحتها. ورحمتي وسعت كل شيء أي: شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيما لأمر الرحمة، وقيل: للشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: فسأكتبها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي: كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا: للذين يتقون أي الكفر والمعاصي؛ إما ابتداء أو بعد الملابسة. ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، وقيل: المعنى: يطيعون الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام؛ لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاء منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها. والذين هم بآياتنا كلها كما يفيده الجمع المضاف؛ يؤمنون إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال: ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور، أي: هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعريض بمن آمن ببعض وكفر ببعض؛ كقوم موسى عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير [ ص: 77 ] حيث قال: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي: خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة، فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى، فأجابه سبحانه بأن: عذابي أصيب به من أشاء وقومك، ممن تناولته مشيئتي؛ ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي. ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي. وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك؛ لأنهم ليسوا كذلك، فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة، وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه، ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أخرى رواها جمع عنه: سأل موسى ربه مسألة فأعطاه محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وتلا الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت، ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره، وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين، فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة، وأثر فيهم دعاؤك، وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: عذابي إلخ كالتمهيد للجواب، والجواب: فسأكتبها إلخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: واكتب لنا وعلله بقوله: إنا هدنا إليك فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة؛ فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي، فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم، وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم، فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع، وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل فسأكتبها كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل، فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة: وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. اه. ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء؛ فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه، وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد، وأبو داود، عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة، إن الله خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها، وعنده تسعة وتسعون».

                                                                                                                                                                                                                                      وأنا أقول: [ ص: 78 ] قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا، وعلى أي طريقة سلكوا، فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو - هو - وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة؛ لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي، وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب، فقال سبحانه له: عذابي أي: الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسي إرادتي من دعوت له، أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله. ورحمتي وسعت كل شيء إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره، فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها، بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها، ولا أقل من أدنى لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه، فطب نفسا وقر عينا، فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا علي، أفترى أني أضيق الواسع عليهم؟ وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل، بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ما أهمهم، وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: فسأكتبها للذين يتقون إلخ. ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم، ووصف أخلافهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه، أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين، وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      والسين في: (فسأكتبها) يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفى وجهه على ذوي الكمال.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية