الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لقد اعتذروا بانتحال أعذار واهية، فأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان له أن يحكم بظواهر ما يقولون، ولأنه لا فائدة في أن يكون في الجيش متخاذلين يكون ذريعة للفشل في صفوفه، ولكن الله يعلم إنهم لن يخرجوا إذا لم يأذن لهم النبي بالتخلف، فيظهر كذب أعذارهم، وينكشف أمرهم، ولذا عتب على رسوله إذ قبل عذرهم، فقال تعالى كلامه: عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .

                                                          هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم الله في هذه الآيات قد اعتزموا القعود وعدم الخروج؛ ضعفا وجبنا، وليفتوا في عضد أهل الإيمان.

                                                          وعن مجاهد : "نزلت هذه الآيات في أناس استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا فيما بينهم: فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا، فهم قاعدون في الحالين، فكان الإذن ساترا لحالهم من قصد التخلف في الحالين، ولذا عاتب الله نبيه على الإذن الذي ستر حالهم ومقصدهم الخبيث، وقعودهم الذليل، قال الله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم وقالوا: إن هذا خطأ وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - عاتبه الله تعالى عليه في ألطف عبارة عتاب، فقد ابتدأ قبل بيان وجه العتاب بذكر العفو، ثم ذكر موضع العتاب; وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتهد في أمر قد أعطي حق الاجتهاد فيه، وهو تدبير الحروب، وتعرف أنجح الخطط فيها، وخيرها وصولا إلى الغاية، وقد رأى أن قعودهم خير من أن يكونوا معهم، ويهموا بالفشل، والمعركة قائمة، ولكن الله [ ص: 3316 ] تعالى ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر لا يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم لن يخرجوا، والله يعلم ذلك.

                                                          والنص الكريم هنا فيه عتاب على الإذن، وقد أجيز الإذن عند الاستئذان في آية أخرى فقال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم

                                                          وموضوع الآيتين مختلف، فالآية الكريمة التي نتكلم في معناها موضوعها المنافقون وضعفاء الإيمان، أما موضوع آية سورة النور فمؤمنون بالله ورسوله، وأجابوا الأمر الجامع للمؤمنين وهو الجهاد، واستئذانهم كان لبعض شأنهم كاستئذان ذي النورين عثمان بن عفان في التخلف عن غزوة بدر الكبرى لبعض شأنه، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره، وإذنه له في التخلف.

                                                          وموضوع العتاب بينه الله تعالى بقوله: لم أذنت لهم وهو استفهام للاستنكار بمعنى النفي، أي: لا سبب للإذن; لأنهم كانوا قاعدين لا محالة، فالنص ليس فيه استفهام عن سبب الخروج، ولكن نفي مع العتاب لأن يكون ثمة مسوغ للإذن، ولذا لم يقل سبحانه - وله المثل الأعلى في الكلام المعجز -: "لماذا"؟ لأن ذلك يكون نصا في السؤال عن المسوغ.

                                                          وإن ذلك الإنكار كان لعدم الانتظار حتى تتبين حالهم الحقيقية، وهو أنهم قاعدون، ولذا قال تعالى: حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين أي أنه كان يجب الانتظار، وألا تسارع بالإذن حتى تتبين حالهم، وينكشف أمرهم.

                                                          والنص الكريم يومئ إلى أن الذين أذن لهم في التخلف كان منهم صادقون في أعذارهم، كبعض الفقراء الذين لا يجدون ما يحملهم في ذلك السفر البعيد الشقة الشديد المشقة، وهؤلاء تبين صدقهم، والمنافقون تعلم كذبهم علما يقينيا، [ ص: 3317 ] ووصفهم سبحانه بقوله تعالى: وتعلم الكاذبين الذين صار الكذب وصفا لهم وشأنا من شئونهم كالمنافقين، فإن الاتصاف بالكذب يلازم النفاق ولا يفترقان.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية